كتب: د. ابراهيم النجار
توفي المُسِن حيزان الحربي، صاحب واحدة من أغرب وأجمل القضايا التي شهدتها المحاكم السعودية، بعد تعرضه لحادث دهس منذ نحو شهر، رقد بعده في العناية المركزة، حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها يوم ٩ يوليو ٢٠٢٥
القضية التي خلدت اسمه في ذاكرة السعوديين والعرب، لم تكن نزاعًا على مال أو عقار، بل كانت خصومة نادرة بين أخوين، يتنازعان لا على إرث، بل على شرف رعاية أمهما المسنة.
حيزان، الابن الأكبر، أفنى عمره في خدمة والدته الطاعنة في السن، وعاش معها وحيدًا، لا يعمل، ولا يشكو، بل يجد في برّها رزقه ورضاه. وحين بلغ من العمر عتيًّا، جاء شقيقه الأصغر الذي يعيش في مدينة أخرى، عارضًا أن يأخذ والدته لتعيش مع أسرته ويكفل لها الرعاية.
لكن حيزان رفض، وقال كلمته التي بقيت محفورة في الوجدان:
“لا تزال أمي بخير، وأنا قادر على رعايتها، ولن أتنازل عنها إلا بحكم الله.”
وهكذا، تصاعد الخلاف بين الأخوين حتى بلغ ساحة محكمة الأسياح، في مشهد نادر قلّ أن يتكرر، وتحولت القضية إلى حديث الناس، وتناولها خطباء المساجد على المنابر، لأنها كانت تحمل عنوانًا نقيًا قلّ أن نراه في عصرنا: التنافس في البر.
القاضي، وبعد جلسات طويلة ومحاولات حثيثة للصلح، أمر بإحضار الأم لتفصل بين ولديها بنفسها. فجيء بها محمولة في كرتون، يتناوبان حملها، في مشهد مؤثر يفوق كل وصف، وسألها القاضي:
“من تختارين يا أم حيزان؟”
فأجابت بعين دامعة:
“هذا عيني هاذي، وذاك عيني تلك… لا أملك غيرهما.”
لكن مصلحة الأم اقتضت أن تنتقل إلى بيت الابن الأصغر، لقدرته على توفير الرعاية الطبية والمنزلية لها، فكان الحكم أن تُنقل من بيت حيزان، وتغادر حضنه الذي ظل يحتضنها سنين.
بكى حيزان… وبكى شقيقه… وبكى كل من سمع القصة.
خرج الأخوان يحملان والدتهما معًا، كما دخلا المحكمة، لكن هذه المرة إلى منزل جديد، وعيونهم تفيض بدموع الوداع، وقلوبهم تنبض بالحب والرضا.
لقد خلدت هذه القصة في الذاكرة، لا لغرابة أحداثها، بل لنقاء نواياها، وصدق مشاعرها، وسموّ دوافعها. لم تكن خصومة، بل كانت أجمل خصومة عرفتها المحاكم الشرعية، حين تصارع الأخوان على باب من أبواب الجنة، وعلى امرأة لا تملك سوى خاتم نحاس في إصبعها، وقلب أم لا يتكرر.
وسُجّلت مقاطع للراحل وهو يتحدث عن أمه، كيف يطهو لها، ويُطعمها، ويدعو لها بالجنة، ويحثّ الصغار على بر أمهاتهم، قائلًا:
“كيف تكون أمي حية، ولا أكون تحت قدميها؟!”
فرحمك الله يا حيزان، ورضي عنك، وجزاك عن برّك خير الجزاء.
نسأل الله أن يغفر لك، ويرفع مقامك، ويسكنك الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء.
رحم الله قلبك، وطيّب ثراك، وجعل محبتك لأمك نورًا لك في قبرك، وشاهدةً لك يوم تلقى الله.