لماذا لا نعبث كما يعبثون؟
بقلم/ بسمة علي مسعد
عندما كتبت مقالة “يا بني، لا تكن محترمًا”، كنت أقصد بالفعل هذا المعنى. لأنني حقًا كنت وما زلت لا أفهم: كيف يمكنني أن أربي طفلًا على قيم ومبادئ وأخلاقيات لا يعترف بها المجتمع؟ أو بمعنى أدق وأوضح، هي في نظر المتعايشين في هذا المجتمع مثل القيم العليا التي تُدرّس في الكتب فقط. وكأن الرفق، واللين، والخلق، والاحترام، والرقي قد أصبحت وصمة عارٍ لمن يتعامل بها، في مجتمعٍ تسوده القسوة، والانحطاط، والاستغلال، وسوء الخلق.
وعندما تعرضت للهجوم بسبب تلك المقالة، شعرت بسوء ما كتبت، وتساءلت: إذا لم نربِّ أولادنا على الفضيلة، فعلى ماذا نربيهم؟ وما هي القيم التي ينبغي أن نغرسها في أبنائنا؟ وسط هذا الكم من التساؤلات، توقفت فجأة، وأنا أردد: “كلنا بحاجة إلى أن نغير ما تربينا عليه”. أنا وأنت أيضًا بحاجة إلى هذه التساؤلات. نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نعرف كيف نتعايش في مجتمعٍ مهترئ، دون أن نشعر أننا قادمون من كوكب آخر، أو دون أن نقف مكتوفي الأيدي في بعض المواقف بسبب قلة الحيلة، حينما نصطدم بواقع مرير لا نفقه كثيرًا مما يُقال فيه أحيانًا، أو يُفعل أحيانًا أخرى، ولا نملك في التعامل معه سوى الصمت؛ مبررين ذلك بالترفع عن الأذى أحيانًا، وأحيانًا أخرى بالارتقاء بأنفسنا عن الانحطاط إلى مستوى لا يليق بنا. لكن هذا الترفع يُرى من قِبَل من يملكون “خوار البقر” عجزًا، وضعفًا، ومهانة. وتلك هي النتيجة الطبيعية التي يجسدها مبدأ “من أَمِن العقاب أساء الأدب”.
على الرغم من تعالي صيحات الحملات الإعلامية وجهود الدولة ودعوات سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي لمحاربة الفساد، إلا أننا، يا فخامة الرئيس، بحاجة إلى حملات إعلامية تركز على محاربة الانحلال أولًا قبل الفساد. فلا يمكن أن نتوقع الأمانة من موظف لا يتحلى بالنزاهة على نفسه وإنسانيته، وهو يقودها نحو هاوية الانحراف بعيدًا عن كل ضوابط المثالية.
وما يثير الدهشة حقًا، ومن أعجب ما يمكن ملاحظته في مصر، أن تكون لدينا حكومة تدعو إلى الإصلاح والرقي، بينما هناك عقول تفشت فيها آفة الانفلات، وتدهور المستوى الفكري والأخلاقي لدى من يُفترض أن يكونوا قدوة في الفكر والسلوك.
أما ما يدعو إلى البكاء أحيانًا وإلى السخرية في أحيان أخرى، فهو أن بعضنا أصبح بحاجة إلى استحضار “شيطان” صغير أو عابث يدفعه نحو إيجاد المبررات الواهية والحجج اللا منطقية، ليتوارى خلف ثياب الشرف المزيفة، مخفيًا تحتها أكوامًا من اللا أخلاقيات التي أصبحت، للأسف، تُضرب بها الأمثال.
إننا بحاجة إلى طبيب نفسي داخلي يسمح لنا بتناول “مهدئ” يغرس فينا فكرة “مش هنصلّح الكون” لتبرير التغاضي عن الكثير من التجاوزات، أو حتى لنأخذ فرصة لاستيعاب الانحدار الفكري والأخلاقي الذي يفرضه التعامل مع بعض البشر الذين لا يملكون أي نية للارتقاء.
وربما نحن بحاجة أيضًا إلى وصفة مخدّرة تُخفّف من وطأة مبدأ “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، وتُبرر لنا مسايرة الواقع الذي أصبح “ماشي في السوق”.
ولست أدري إلى من أوجه أصابع الاتهام: هل أبدأ بمن يزيفون المبادئ تحت ضغط الظروف والحاجة؟ أم بمن لا يقتنعون حتى بمبررات الظروف والحاجة؟
ويبقى السؤال المُحير: لماذا لا نعبث كما يعبث الآخرون؟ فقد أصبح من الضروري، عزيزي القارئ، أن نكون جميعًا شياطين، حتى نستطيع أن نتشارك في هذا العبث الذي صار عنوانًا للمرحلة.