الهوية المصرية والمتحف المصري الكبير

 

 

كتبت: منى العساسي

 

الهوية أحد أكثر المفاهيم استعصاءً على الاختزال، سواء في صورتها الفردية أو الجمعية، لأنها تتكون من مجموعة من العناصر التاريخية واللغوية والثقافية والرمزية التي تتداخل وتتفاعل باستمرار. كما أنها استجابة متجددة لتحولات الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر. وفي الحالة المصرية، يكتسب النقاش حول الهوية خصوصية واضحة، نتيجة ثراء التجربة التاريخية وتوالي أنماط حضارية تركت جميعها أثرًا في بنية الوعي المصري. ومع افتتاح المتحف المصري الكبير وتصاعد الخطاب حول الهوية الفرعونية، برزت الحاجة إلى إعادة قراءة هذا المفهوم كتركيب معقد لا يمكن إرجاعه إلى حقبة واحدة من الماضي.

فالهوية الجمعية للمصريين هي نتاج تراكم حضاري طويل يشمل الحضارة الفرعونية، والتراث القبطي، والعربي الإسلامي، والحقبة العثمانية، وصولًا إلى الحداثة التي رسختها الدولة المركزية في القرنين التاسع عشر والعشرين. هذه الحقب تتشابك لتنتج نسقًا متغيرًا من القيم والطبيعة الاجتماعية وممارسات الحياة اليومية. فالمصريون اليوم يتحدثون لغة عربية، ويمارسون عادات ذات جذور فرعونية وقبطية، ويعيشون داخل دولة حديثة تستند إلى نظام بيروقراطي، فيما يتحركون داخل أطر إسلامية. لذلك يستحيل اختزال الهوية المصرية في لحظة واحدة مهما كان حضورها الرمزي قويًا. ويزيد الاتصال الرقمي من تعقيد المشهد الهوياتي، إذ يعيد تشكيل وعي الأجيال الجديدة بما يتجاوز الإطار المحلي التقليدي.

إن الخطاب الفرعوني المعاصر، الذي برز مع افتتاح المتحف المصري الكبير، لا يمثل عودة إلى الأصل بقدر ما هو محاولة لإعادة ترتيب الهوية الوطنية في لحظة تحتاج فيها الدولة إلى رمز قادر على تحقيق الإجماع الشعبي، وتقديم صورة متماسكة على المستويين الداخلي والخارجي. فالحضارة الفرعونية تتمتع بقدرة كبيرة على التسويق الثقافي والسياحي، وتقدم نموذجًا للدولة القوية. لكن هذا الاستدعاء الرمزي لا يلغي حقيقة أن الهوية الفعلية تتشكل عبر عناصر أكثر تأثيرًا في الحياة اليومية، تشمل اللغة، والدين، والتعليم، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، والتطورات الحديثة.

 

ومن المهم النظر إلى المتحف المصري الكبير في سياقه الأصلي، بوصفه مشروعًا اقتصاديًا وثقافيًا وسياحيًا ضخمًا. فالمتحف يمثل نقطة تحول في السياحة الثقافية، من خلال استقطابه لفئات زوار متنوعة وعالية الإنفاق، وخلق دورة اقتصادية واسعة تشمل شركات السياحة والفنادق والمطاعم والمراكز التجارية وغيرها، بالإضافة إلى عرض رؤية شاملة للحضارة القديمة. كما يفتح المجال لفضاء ثقافي وتعليمي متكامل، يتيح التعاون بين الجامعات والمؤسسات البحثية، وتنظيم المعارض والأنشطة العلمية. ولذا فإن قيمته الفعلية تتجاوز الجدل الهويّاتي إلى كونه رافعة استراتيجية للاقتصاد والثقافة والصورة العالمية لمصر. كما يمنح المتحف فرصة لإعادة صياغة علاقة المجتمع بالتراث من خلال أدوات تعليمية حديثة تتجاوز الرؤية الاحتفالية للماضي.

كما أن هناك تحفظًا حول خطورة نقل المتحف من سياقه الترويجي العالمي، فالتسييس الزائد للماضي قد يحجب الدور الاقتصادي للمتحف ويحد من فعاليته كوجهة سياحية. كذلك فإن حصر المتحف في كونه رمزًا لطبقة واحدة من الهوية قد يقصي طبقات أخرى يشعر المصريون بالانتماء إليها، ويخلق حالة احتقان واستقطاب رمزي غير لازمة بين الموالون للفرعونية والعروبة والإسلام والقبطية، فالهوية المصرية تاريخيًا تقوم على التعدد، وحين تُدفع قسرًا نحو مسار واحد تفقد قدرتها على التعبير عن التنوع الاجتماعي الذي شكلها عبر آلاف السنين.

شاهد أيضاً

مهرجان “آخر موضة” يستعد لإطلاق موسمه الـ٤١ يوم ١٢ديسمبر برئاسة الإعلامية الدكتورة مروة نورالدين

    كتب:عمرو مصباح منصة تجمع صُنّاع الموضة العرب في حدثٍ واحد يحمل شعار “نوفمبر …

شاهيناز فخورة بدوله التلاوة

    كتب:عصام ميلاد   أشادت المطربة شاهيناز أنها فخورة ببرنامج دوله التلاوه، الذي يعد …