“أنـا وحـصـانـي”
بقلم طارق غريب
(صوت وفاء يأتي من البعيد ، شفاف كالماء ،
يتسلل إلى قلب المشاهد لا إلى أذنه.)
في البدء لم يكن الإنسان وحده
بل كان يسكنه مخلوق من ضوءٍ ووحشةٍ وغريزةٍ طاهرة.
كائن لا يعرف الكذب ، ولا الخوف من الطريق.
سُمّي يومًا : الحصان.
ومنذ أن فُصل الجسد عن الحلم،
بدأ الإنسان يبحث عن حصانه ،
في عيني امرأة ، في خفقة صلاة ،
في نداء الريح.
لكنّ القليل فقط وجدوه.
وها هو طارق ، واحدٌ منهم. يسمع الصهيل القديم ،
ويعود ليروي لنا حكايته مع نفسه ، في شكل حصان.
(صهيل بعيد ، يتنفس المسرح بنورٍ خافت ،
يبدأ من قلب العتمة.)
صوت طارق :
كنتُ وحدي ، إلا من حصاني.
لم يكن حيوانًا ولا رفيق طريق ،
بل ظلًّا من روحي تَجسّد في شكلٍ
من لحمٍ وعرقٍ وذكاءٍ غريزيّ.
كلّما نظرتُ في عينيه ،
رأيتُ خوف الإنسان الأول حين اكتشف النار ،
ودهشة الطفل حين يلمس المطر لأول مرة.
كنتُ أكلّمه بلا صوت ، فيفهمني بلا لغة.
وحين يقترب الليل ، كان يمدّ عنقه إلى صدري ،
كأنه يصغي لنبضي ،
ليتأكد أنني ما زلتُ أعيش رغم كل هذا التيه.
صوت الحصان :
أنا لستُ مخلوقًا من طينٍ كما تظن ،
بل من ذاكرةٍ نسيها الإنسان حين اخترع المدن.
كنتُ ظلَّه الأول ،
يوم كان يركض خلف المطر ليصطاد الحلم.
طارق :
كنتَ تعرف الطريق قبل أن أرسمها ،
وتعرف الخطر قبل أن أراه ،
وتعرف ضعفي حين أخفيه خلف ملامح القوة.
طارق :
على ظهرك ، يا صديقي ، عبرتُ وهاد الشك ،
ومرتفعات الكبرياء ، وسهولًا من العدم.
كنتُ أظنّ أني القائد ،
حتى أدركتُ أن الحصان لا يُقاد ،
بل يُصغى إليه.
هو الحقيقة في شكلٍ نبيلٍ يركض.
كم من مرة ركضنا بلا هدف واضح ،
لكن الريح كانت تعرف عنّا ما لم نعرفه نحن.
كنتُ أرى في خطواتك صبر الأنبياء ،
وفي نظرتك حكمة من عرف الطريق وقرر ألا يتكلم.
الحصان :
كنتَ تريد النصر ، وأنا أردتُ النقاء.
كنتَ تسأل عن النهاية ، وأنا أؤمن بالرحلة .
كنتَ تلهث وراء مجد من حجر ،
وأنا أبحث عن ظلّك الإنساني حين يصفو.
طارق :
كم مرة أنقذتني من نفسي ،
حين أردتُ أن أواصل الركض في طريقٍ انتهى؟
أنت تعرف متى يكون الصمت صلاة ،
ومتى تكون السرعة خلاصاً.
الحصان :
وأنت تعرف أن كل من أراد أن يربح العالم ،
خسر نفسه أولًا. كنتَ تظن أني أطيعك ،
لكنني كنتُ أقتادك إلى ما فيك ، لا إلى ما أمامك.
(صوت الريح يعلو ، كأنها ذاكرة تتنفس.
ضوء الغروب يلوّن المسرح بنحاسٍ غامق)
طارقو :
ذات مساء ، عند تخوم الغروب ، توقّف وحده.
نظر إليّ طويلًا كأنه يقول :
لقد وصلتَ ، أيها الإنسان
لكن هل وصلتَ إليّ ، أم إلى نفسك؟
في عينيه رأيتُ سؤال الوجود كله ،
رأيتُني صغيرا أمام صمته ،
ورأيتُ الله يطلّ من وراء المجهول بابتسامة من نور.
الحصان :
كنتُ أختبرك ، لا الطريق.
كنتُ أريد أن أعرف :
هل ستنزل عن ظهري حين تنضج ،
أم ستظل تركض لتنسى من تكون؟
طارق :
قلتُ له وأنا ألمس عنقه :
علّمتني يا صديقي أن الركض ليس هرباً ، بل تطهيراً.
أن الصبر ليس ضعفاً ، بل لغة من لغات الروح.
أن الصوت ليس بالكلمات ، بل بما يسكنها من صدق.
الحصان :
وأنا تعلّمتُ منك أن الإنسان رغم ضعفه ،
قادر أن يحلم ، أن ينهض بعد كل سقوط ،
وأن يبحث عن الله حتى لو لم يره.
(الإضاءة تتحول إلى فضية ,
مزيج من صهيل ونايٍ وأنفاس بشرية)
طارق :
عدتُ أنظر إليه
لم يكن حصاني ، بل كأني ،
في شكل من لحم أصدق من الفكر.
وحين نَخَرَ في صمت المساء ،
شعرتُ أن الكون كلّه يركض معنا ،
نحو معنى لا يُدرك ، لكنه يُعاش.
كل ما فيّ تغيّر تلك الليلة.
لم أعد أرى الجسد كما كان ،
ولا الغروب كما كان ، ولا الطريق كما كان.
صار العالم كله ركضًا واحدًا ،
نحو نبع لا يُرى
ونحو ذاتٍ تُخلق كلما صدق الإنسان خطوته.
(يتقدم إلى مقدمة المسرح ، يرفع رأسه نحو الضوء)
طارق :
يا صديقي الذي علّمني معنى الحرية ،
لن أعود إلى المدن التي نسيت صهيلها ،
ولن أبيع الوضوح بثمن الأمان.
فمن عرف طريقه إلى الحصان ،
عرف طريقه إلى الله.
(صهيل عال ، ضوء يغمر المسرح كله حتى العمى ،
ثم عتمة كاملة)
(صوت وفاء يأتي من العدم مجددًا ،
أكثر صفاءً هذه المرة.
الموسيقى هادئة كتنفس كوكبٍ نائم)
وفي العتمة ، لم ينتهِ الركض.
فالذين عرفوا حصانهم ،
لا يموتون ،
بل يتحوّلون إلى صهيلٍ خفيّ في ذاكرة الوجود.
كلّ من وجد حصانه ،
وجد الله في نفسه ، ووجد نفسه في الله.
ليس الجسد إلا ساحة تدريب للروح ،
ولا الأرض إلا مرآةٌ لما يركض في داخلنا.
وحين يصمت الإنسان
يبدأ الحصان في الكلام.
وحين يتحدان ، يُولد الإنسان الحقيقي
الكائن الذي يركض نحو النور
لا ليصل ، بل ليصير هو النور .
(صمتٌ كامل. ثم نغمة واحدة طويلة ،
كآخر نفسٍ في كونٍ أدرك معناه.)
ستار
جريدة الوطن الاكبر الوطن الاكبر ::: نبض واحد من المحيط الى الخليج .. اخبارية — سياسية – اقتصادية – ثقافية – شاملة… نبض واحد من المحيط الى الخليج 