توأم الروح
قصة قصيرة كتبها / عبده داود
يعتبر خليل مشواره الصباحي على دراجته الهوائية من المقدسات اليومية، ومن الأمور المحببة عنده، رياضة الجسد والروح. يزام مشواره مع شروق الشمس… يحاكي السماء ويطلب الرحمة للراحلة التي كانت حبيبته…
يخرج باكرا، يستمتع بسكون مدينته الريفية، لا يشاركه في الطريق سوى العصافير التي تملأ الأشجار بزقزقتها وصخبها، وبعض الفلاحين المارين أو الراكبين على دوابهم ذاهبين إلى أراضيهم…
خليل لا يزال عازباً رغم إنه تجاوز الثلاثين من العمر، وسبب عزوبته قصة حبه الحزينة.
هو وسوسن، كانا يعيشان قصة حب حقيقية، تعارفا وتصادقا في الجامعة بكلية التجارة، ثم تحابا لدرجة العشق وصارا يعتبران نفسيهما من اسعد الناس، ويؤمنان بأن الله هو الذي وحد قلبيهما، وتواعدا بالقسم على ارتبط العمر بعد تخرجهما.
سوسن كانت طالبة، ذكية، جميلة، ومتفوقة جداً… ووصلا هذه السنة إلى التخرج…
سوسن كانت كثيرا ما تشكو من اوجاع رأسها، كانت تأخذ مسكنات، وتعتقد بان الأمور عادية، وخليل كان يتألم معها لأوجاعها، لكن ذلك اليوم، أحست بوجع شديد برأسها، وسقطت على الأرض مغمى عليها…
اسعفها خليل مباشرة إلى المستشفى، وبعد اجراء الفحوصات اللازمة وصور الاشعة، تأكد الأطباء من وجود ورم سرطاني متقدم في رأسها…
قال الأطباء نسبة نجاح العمل الجراحي بمنطقة الورم ضعيفة، لكن عدم اجراء العملية هو الخطر الحتمي الأكيد…
خابر خليل أهل سوسن، جاء ابوها وامها من بلدهم مرعوبين…
أجروا للصبية الجراحة، ولكن الفتاة توفت بعد أسبوع، جن جنون أهلها وجنون حبيبها…وبعدما هي رحلت، رحلت الشمس الساطعة معها وغاب القمر… حلت الظلمة في حياة العائلة وحياة الحبيب في الليل والنهار…
لم يعد الفرح يعرف طريق خليل، وهو لم يسمح لأي فتاة الوصول إلى قلبه…الأحزان قضت على كافة مشاعر السعادة في حياته، ولم يعد للفرح وجود في عالمه الذي جعله يعيش متوحداً، كان الألم أكبر من أن يستكين ولا يتخامد…
خليل خصص ركناً في غرفته، جعله كنيسته الخاصة او مزاراً يحج اليه عندما يحتاج إلى الصلاة والتواصل مع السماء.
كانت صورة سوسن الراحلة، معلقة في برواز فاخر ينظر إليها خليل بقدسية تشبه قدسية الصور المقدسة.
كان تواجده المستديم هاجس مع حبيبته الراحلة…نهارا وليلاً وحتى في أحلامه، قبل النوم كان يشعل شمعة تحت صورة العذراء… ويبقى صامتاً وعيناه تترقرقان بالدموع…
لم يصغ إلى صوت أهله بقبول عمل ما يخرجه من جو الحزن الذي يملأ حياته، قالوا له العمل هو خير دواء لكن سقم، يشفينا من اوجاعنا وآلام قلوبنا، لكن خليل رفض، وفضل أن يعيش كل لحظات حياته مع الحنين والحزن وهواجس قلبه…
اقترب عيد الميلاد ببرده وثلجه، وفكر خليل كثيراً هل يجوز أن يزين البيت بشجرة فرح الميلاد، بينما قلبه يسكنه الحزن السميك؟
ثم أقنع ذاته، يجب أن أنصب احلى شجرة ميلاد، لأن سوسن ستفرح وهي تشاهدها من السماء، وتعرف بان هذه الشجرة لها هي…لذلك قرر الذهاب إلى قرية ليست بعيدة عن بلدته، حتى يشتري شجرة صنوبر طبيعية…
ذلك الصباح كان الطقس جميلاً، والسماء صافية، خطر بذهنه استخدام دراجته الهوائية في مشواره بدل السيارة…
وصل برحلته إلى تلك البلدة القريبة من بلدته… صدفة شاهد صبية تحتسي القهوة ضمن غرفة تخرق جدرانها البلورية اشعة الشمس وسط حديقة المنزل… لأول مرة خليل يحدق إلى فتاة مشدوهاً، بعد وفاة صديقته سوسن الراحلة… وقد جمدت عيناه، وجمدت قدماه عن الحركة، وهو ينظر إلى شابة تشبه تماما خطيبته الراحلة الشبه العجيب…ثارت براكين احزانه، وسالت دموعه،وقال هذا حلم يقظة، وهم بالمتابعة…
لكن الفتاة نادته بالاسم، واشارت له بالتوقف، وجاءت مسرعة إلى جانب سور الحديقة وقالت له: تفضل أستاذ خليل، تفضل احتسي قهوة الصباح معنا، أنا هدى شقيقة المرحومة سوسن أختي التوأم، أنت لست غريباً، أنا أعرفك من الصور المعلقة في غرفتها…
وقف شعر رأسه، وتجمدت الكلمات في فمه، ولم تتحرك شفتاه، ظهرت أم المرحومة سوسن، ورأت خليل فأخذت تجهش بالبكاء.
أصرت ام سوسن أن تستضيف خليل.
استيقظ الأب على أرجة أصوات، وخرج يستطلع الامر، وتفاجئ بوجود خليل عندهم في البيت، ضمه وغمره بالقبلات، واغرورقت عيناه وعيون الجميع بالدموع…
عرف خليل بان العائلة انتقلت إلى هذه البلدة بعدما تقاعد الأب وأحب أن يسكن في الريف في هذا المنزل ذو الحديقة الواسعة الذي ورثته أم سوسن من أهلها…
طالت الجلسة، وطالت أحاديث الماضي، عن سوسن التي كانت هي روعة حياة العائلة، قصص حزينة أغرقتها الدموع بألوان الجراح التي لا تزل نازفة، عصية على الشفاء، وتبدو بأنها لن تندمل…
تحت الحاح جميع افراد العائلة، الذين احسوا بان أحزان خليل لا تقل عن احزانهم… ترجوه بإلحاح أن يزورهم دائماً…
وفعلا، تكررت الزيارات، وتقاربت المواعيد بين الزيارة والزيارة…
خليل أحس بأنه ينتمي إلى هذه العائلة، بل هو ابن هذه العائلة، طالما هو كان سيكون صهرهم زوج ابنتهم…وأحس بأنه مسؤول عن هذه العائلة طالما هم يفتقرون إلى شاب يقف بجانبهم، والأب والأم صارا كهلين بحاجة لمن يقف بجانبهم. وأعتبر خليل هذا الأمر واجب عليه. بل اسعده الأمر حتى تبقى ذكرى سوسن بكل حضورها دائمة الوجود.
وفعلاً، العائلة أحبته لذات الشعور…شعرت بأن هذا هو ابنهم صهرهم الذي كان سيكون زوج ابنتهم.
المشكلة، هذه المحبة تطورت إلى حب في قلب هدى، خليل لم يكن يفكرفي هذا الأمر. لكن هدى لم تعد قادرة على كتمان أمر قلبها، فاضت بها المشاعر وأخذت تتدفق من عيونها ولمساتها…وحتى صارت تضع له رسائل الحب في جيوبه…
ماذا يفعل خليل، هل يهرب؟ هل يترك هذه العائلة التي صارت عائلة ثانية له، هل يساير هدى في عواطفها ويتزوجها؟
هذا الأمر اعتبره خليل خيانة لأختها المرحومة…
وهو يعاني ولا يعرف كيف يتصرف
أرجو من القارئ الحبيب ارشاد خليل إلى حل.
إلى اللقاء.