من الظواهر الصوتية عند قبيلة هذيل
المقصور المضاف إلى ياء المتكلم
أيمن دراوشة – ناقد أردني
تهيئة:
اللغة واللهجة مصطلحان مترادفان:
استخدم علماء اللغة قديمًا كابن جني والجاحظ وابن فارس، وغيرهم لفظ لغة، للتعبير عن اللغة العربية في عمومها وشمولها وانتظامها، للهجات القبائل العربية التي انتشرت في أنحاء الجزيرة، وهم بذلك يؤثرون التعبير بلفظ لغة عن لهجة التي تتميز بها كل قبيلة عن سواها من القبائل، وقد انتشر هذا المصطلح في المصادر القديمة انتشارًا كبيرًا، فنجده دائمًا عند علماء اللغة في رواياتهم وكتبهم وتراجمهم، فنجدهم يقولون لغة الحجاز، ولغة قريش، ولغة تميم وغيرها الكثير في كتب اللغة، وحتى العناوين فقد تم استخدام اللغة مكان اللهجة، مثل كتاب اللغات لابن زيد، وكتاب اللغات للأصمعي، وفقه اللغة للثعالبي، وكتاب لغات القرآن…
وقد تعدى هذا الاستخدام كتب اللغة ليشمل كتب النحو والصرف، وكتب القراءات والتفسير والحديث، فنجدهم يقولون في إعراب المثنى على سبيل المثال لا الحصر: لزوم الألف لغة حارثية،
إذًا تستخدم اللغة بمعنى لهجة، واللهجة بمعنى لغة، وهما بذلك مترادفان، إلا أن لفظ لغة هو مَن طغى على كتابات العلماء في مختلف صنوف العلوم اللغوية.
كما استخدم العلماء القدامى لفظ لسان مثل ابن منظور في معجمه لسان العرب، وهو مصطلح يشمل لغة العرب جميعهم، أمَّا اللغة فتطلق على لهجة قبيلة بعينها.
وقد رأى بعض المحدثين أن الفرق بين اللهجة واللغة، أنَّ الأولى هي لغة التخاطب، أمَّا الثانية (اللغة) فهي لغة الكتابة.
ومهما يكن من أمر فالمصطلحان مترادفان، ولا ضرر من إحلال أحدهما مكان الآخر طالما لم تتأثر به حقائق الأشياء.
اختلاف لهجات القبائل:
كان لنتيجة التنقل والاستقرار والانعزال والاختلاط… أنِ اختلفت القبائل فيما بينها، وقد أدّى ذلك إلى أن يكون لكل قبيلة من العرب لهجتها التي تميزها عن غيرها، وهذا بحد ذاته ما يحدث في العصر الحديث حيث تطورت اللهجة بحكم الزمن وتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية… ولهذا نقول عامية مصرية وعامية فلسطينية وعامية شامية وعامية خليجية…
ولا شك أنَّ اللغة تتطور بعوامل كثيرة يرجع أهمها إلى عوامل اجتماعية خالصة تتمثل في حضارة الأمة، وعاداتها وتقاليدها ونظمها وعقائدها ومظاهر نشاطها العملي والعقلي، وثقافتها العامة وكذلك تأثر اللغة بلغات أخرى وعوامل لغوية ترجع إلى طبيعة اللغة، وعوامل أدبية تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة، إضافة إلى عوامل طبيعية تتمثل في الظواهر الجغرافية والفيزيولوجية…
الظواهر الصوتية عند قبيلة هذيل:
كان لقبيلة هذيل مجموعة من الخصائص والصفات ما كان جديرًا أن يصير موضوعُا لهذه الدراسة، وأول هذه الخصائص والسمات هو الظواهر الصوتية التي ميزت لهجة هذيل عن غيرها من اللهجات العربية.
وهذه الظواهر الصوتية في اللهجة الهذلية من أمثلتها البحث في الحركات، وفي حروف المد الثلاث أي في أصوات اللين القصيرة والطويلة، وفي الإمالة، والمقصور المضاف إلى ياء المتكلم، والهمز، وتخفيف الهمز بالإبدال، وغيرها الكثير من الظواهر الصوتية والتي تحتاج كل واحد منها إلى دراسة مستقلة عن الأخرى.
المقصور المضاف إلى ياء المتكلم:
اعتاد النحاة واللغويون العرب أن ينظروا في بنية الكلمات كما تلقاها الرواة من أفواه أصحابها، فإذا وجدوا كلمة تختلف في أدائها أو بنيتها عن الاتجاه العام لنظائرها من الكلمات في اللغة الفصحى، قاموا بالتعليل والتبرير ربما بشيء من التكلف والصنعة، أو التخبط فيما وقع تحت انظارهم من الظواهر اللغوية، فهم مثلًا عندما وجدوا صيغة مثل صيغة المقصور مضافًا إلى ياء المتكلم مثل: عصاي – فتاي – بشراي … واستقامت لهم هذه الصيغة في اللغة الفصحى ، ليصطدموا بعد ذلك بما يخالف هذا الاتجاه، فقد وجدوا أنَّ عَصَيَّ بدلًا من عصاي، وفَتَيَّ بدلًا من فتاي، وبُشْرَيَّ بدلًا من بشراي… وذلك في لهجة من لهجات القبائل العربية كقبيلة هذيل، فنراهم يقولون أنَّ الألف قد انقلبت إلى الياء في هذه اللهجة، وهم يريدون بذلك أن يردوها في يسر إلى الصيغة التي ألفوها؛ فيستقيم لهم الأمر من أقرب طريق، أو من الطريق الذي ألفوا أن يسلكوه
لكن الأمر الغريب أنهم جعلوا هذا القلب تارة بالجواز، وتارة أخرى بالحسن، وهذا يدلل أنَّ الألف هي الأصل القديم، والياء تطور لها، فهذا ابن مالك يقول “وفي المقصور عن هذيل انقلابها عن ياء أحسن” وإذا كان هذا الرأي صحيحًا، فما معنى أن نستخدمها بصيغة إثبات الألف، فالتطور لا يمكن أن يكون للوراء، حتى في المخترعات العلمية كالسيارة والطائرة يستحيل أن تكون قبل 20 سنة أحسن.
وإذا كان القلب لغة قبيلة بحد ذاتها، فهذا مفروض عليهم ولا انفكاك لهم عليها، ولا اختيار، ولا صناعة…
إذًا فالمنطق يقول أنَّ الأصل هو وجود الواو والياء في كثير من الكلمات قبل أن تتطور هذه الواو والياء، ومن ذلك قولهم (أَفعَوْ) يريدون أفعى، و(قَفَى)، يريدون قفا، وهذا هو الطور الأول من أطوار النطق في مثل هذا اللفظ الذي تطور في اللهجة القرشية إلى الألف فصار قفا، وأفعى، … ولكنه وقف عن الكثيرين من القبائل البدوية بدون تطور؛ فعصا كانت تنطق عندهم (عصوْ) وهدى (هَديْ) ، وبشرى (بشريْ)، وهكذا وهذا التطور من الممكن أن ينعكس على اللفظة نطقًا أو كتابةً، وما يثبت كلامي فإننا نرى إخواننا المصريين -على سبيل المثال- يكتبون الشنفرى (الشنفري) أي بتنقيط الألف المقصورة، لكنهم ينطقونها صحيحة (الشنفرى)، فالأمر هنا يختص بالكتابة وليس النطق، ولا أعتبر ذلك عيبًا، وإنما هذا بحكم أنه لهجة من اللهجات التي بقيت دون تطور، وهذا لا يجيز لنا أن نقول بالجواز أو الحسن، كما فعل أسلافنا من علماء اللغة في تفسير إحدى الظواهر اللغوية.
وعند الإضافة إلى ياء المتكلم كان لا بدَّ إذًا من أن تدغم الياء في الياء في مثل بشرى، فتصير بشريّ، وإنْ تُقلب الواو ياءً في عصو، لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون، الأمر الذي يترتب عليه صعوبة النطق بها مع الياء في مثل هذه الألفاظ، ثم تدغم في ياء المتكلم كسابقتها
ولعل هذا هو التعليل الصحيح لهذه الظاهرة اللغوية، أمَّا بشأن نسبة الظاهرة نفسها إلى هذيل، فإنَّ جمهرة كتب اللغة والنحو والأدب تنسبها إلى هذه القبيلة
وقد وردت الرواية بذلك عن كثير من الرواة واللغويين القدامى كالرياشي وغيره، وقد قُرئ بلهجة هذيل هذه: هديّ في موضع هداي، وعصى بدلًا من عصاي ونظائرهما في القرآن الكريم .
وممن رُويَ عنه من اللغويين نسبتها إلى هذيل ابن حبيب، وقد روى الضبي عن الأصمعي أيضًا نسبتها إلى هذه القبيلة، ومعلوم أنَّ الأصمعي من أكثر علماء اللغة وأئمتها اهتمامًا باللغة الهذلية، والشعر الهذلي، وأنه طوف كثيرًا في منازل هذيل يروي شعرها، ويتلقى اللغة من أفواه أصحابها، إلى جانب ما قرأ على الشافعي الذي قضى بين ظهرانيهم ردحًا من الزمن، وحفظ كثيرًا من أشعارهم
وإذا كان هذا الاتجاه الذي ذكرنا – بشأن المقصور المضاف إلى ياء المتكلم – في اللهجة الهذلية له شيء من الشهرة والإلف عند علماء العربية بعامة، فلعل علماء القراءات بخاصة كانوا أشد من غيرهم إلفًا لها، ومعرفة بها، حتى عندما أشار ابن جني إلى شذوذها تعقبه الشاطئ، وخطّأه في أن ينسب الشذوذ إلى لغة شعيرة كلغة هذيل
وقد أورد النحاة واللغويين لهذه اللهجة شاهدًا من شعر أبي ذؤيب الهذلي – أشهر شعراء هذيل – هو بيته المعروف في مطلع قصيدة يرثي بها أبناءه:
سبقوا هويّ وأعتقوا لهواهمُ فَتُخِرموا ولكل جنب مصرع
وليس هذا البيت من الشواهد النحوية التي قد يتطرق إليها الشك أحيانًا، فقد ورد في أشعار الهذليين بهذه الرواية، وهكذا تمت الرواية في كتب اللغة والأدب مع أنه رُويَ باللغة الفصحى لما في ذلك من أثر في استقامة الوزن وموسيقاه، وهذا بحد ذاته يمنع وقوع الضرورة الشعرية فيه.
ومما يرجِّح ما ذهبنا إليه، ما جاء في كتب اللغة من شواهد تؤكد كلامنا بل وتسانده ، مما يؤكد ويزكي هذه اللهجة في صحة نسبها إلى هذيل.
ومما لا شك فيه، أنَّ قبيلة هذيل هي قبيلة حجازية، فهي بدوية، وقد لمسنا في لهجتها شيئًا من مظاهر البداوة التي نجدها متفشية في غيرها، وليس غريبًا أن تنتقل لهجتهم إلى قبائل أخرى بل وأكثر بداوة من هذيل نفسها.
وخلاصة القول أنّ هذه اللغة هي لغة هذيل وبني سعد، وغيرهما من القبائل البدوية الأخرى مثل طيء، وأنّ الياء السابقة على ياء المتكلم ليست منقلبة عن أصل هو الألف، وإنما هذا الصوت في تلك اللهجة هو في ذاته أصل قديم.
المصادر والمراجع:
1- اللغة والمجتمع، د. علي عبد الواحد وافي، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، مصر، 1983.
2- اللغة والمجتمع، مرجع سابق.
3- من لغات العرب، لغة هذيل، عبد الجواد الطيب، بدون تاريخ.
4- حاشيته على شرح الأشموني للألفية، محمد بن علي الصبان للألفية، مصر، ط1، بدون تاريخ.
5- من لغات العرب، مرجع سابق.
6- من لغات العرب، مرجع سابق
7- القراءات واللهجات، عبد الوهاب حمودة، مصر، ط1، 1368هـ.
8- شرح أشعار الهذليين، تحقيق، عبد الستار أحمد فراج، محمود محمد شاكر، دار الكتب المصرية، مصر، ط1، بدون تاريخ.
9- من لغات العرب، مرجع سابق.
10- من لغات العرب، مرجع سابق.
11- من لغات العرب، مرجع سابق.
12- شرح أشعار الهذليين، مرجع سابق.
13- لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي، دار صادر، بيروت، الجزء الحادي عشر، ط3، 1414هـ.