عبد الكريم احمد الزيدي – العراق- بَغداد
لم يأت العلم بمعنى محدد في الدين ، وانما تجاوز في دلالاته الاداب والاحكام ليشمل العلم المادي والكوني ، فالاسلام دين شامل لكل معاني النشاط الانساني ، ومن أوتي العلم فقد فاز بفضل كبير يعين به الاخرين ويستهل مداركهم ويوسع في معاني التدبر والفهم ليأخذوا من العلم ما يخدموا به انفسهم ويفيضوا به على من سواهم من الناس ، ولكن الهَوى الذي قد يبتلى به البعض من العلماء قد يهوي بهم ويسقطهم فيما لا تحمد عقباه اذا ما مالوا بالطبع الى ما يلائمه ، فيهوي بهم ويقال هوى الشيء اذا سقط والهاوية : جهنم لان الكافر يهوي فيها ، ولذا فقد وصى وامر الله بهذا الامر ، قال تعالى ” ونهى النفس عن الهوى” .
والعلم والحكمة صفتان يلزمان من اوتيهما فضلا من الله ان يعتبر ويتلطف ليضعهما حيث اراد الله بالخير ويدعو بهما الى الناس تقربا الى النصح والتقوى ويخدم بهما الاخرين فيخفف بفضل الحكمة والعلم ما قد يغيب ويتيه في الغي والجهل اناس قد نحسبهم يعقلون ، وقد جاء في كتاب الله امثالا لمن آتاهم الله الحكمة وتأويل الاحاديث من النبيين والمرسلين والصالحين ، ولربما يأتي بالقصد سيدنا يوسف عليه السلام ، قال تعالى في سورة يوسف ” رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث ، فاطر السموات والارض انت وليّ في الدنيا والاخرة ، توفني مسلما والحقني بالصالحين ” وما اجمله من رجاء لسيدنا يوسف عليه السلام ليسأل به الله الاسلام ومآب الصالحين ، وكذا طلب سيدنا موسى عليه السلام كما جاء في سورة الكهف لما التقى الرجل الصالح ليعلمه مما علمه الله بعد ان ظن بانه هو اعلم من في الارض فعاتبه الله سبحانه وتعالى لأنه لم يرجع الفضل اليه ليخبره بوجود الرجل الصالح الذي هو اعلم منه في مجمع البحرين ( ولربما تتاح لنا فرصة لبيان تفصيل هذه القصة واحداثها ) فلما التقاه ، قال تعالى في سورة الكهف ” قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ” فما كان من رجاء سيدنا موسى عليه السلام وغلامه الذي كان يصطحبه معه في رحلته الا ان طلب منه كما ورد في الكتاب الكريم ” قال له موسى هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا ، قال انك لن تستطيع معي صبرا ، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ” وما جاء في قصة موسى عليه السلام والرجل الصالح الا وجها من العلم الذي آتاه الله وعلّمه منه ليزيده فضلا من لدنه ودرسا للخلق وان الله سبحانه وتعالى يعلم مفاتيح الخير ليودعها فيمن يشاء من عباده .
انما كانت هذه المقدمة فاصلا للدخول الى آية كريمة وردت في كتاب الله الكريم من سورة الاعراف ، قال تعالى :
” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ*َلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ “.
والتي توقفت عندها في سياق السورة المباركة التي هي من السبع الطوال جاءت لتصف الاعراف وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين اهلهما ، واصحاب الاعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله بينهم ، والسورة بيان يجسد الصراع الدائم بين الحق والباطل وصوره وذكر لقصص الانبياء وصراعهم مع اقوامهم بين الخير والشر والدعوة الى الله سبحانه وتعالى .
ولبيان موضع هذه الاية الكريمة في عموم السورة التي جاءت لتصف الاعراف وعلى جانبيه صور الحق والباطل ، لابد من ايضاحها ومعرفة اسباب ذكرها :
“أتل” يامحمد “عليهم ” اي اليهود ” “نبأ” خبر ” الذي آتيناه آياتنا فأنسلخ منها” اي خرج بكفره وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني اسرائيل واحبارهم على ذكر اكثر اهل العلم والتفسير ، كان قد سأله قومه ان يدعو على سيدنا موسى عليه السلام واهدوه شيئا بالمقابل ، فدعا فأنقلب عليه وقيل اندلع لسانه على صدره ” فأتبعه الشيطان” اي ادركه وصار قرينه “فكان من الغاويين” اي من الضالين ، وقد جاء في التفسير ان المقصود بآيات الله التي اوتي بها هذا الحبر فيما يقال اسم الله الاعظم الذي اذا دعي به اجاب .
والمهم في الامر ان هذا الرجل الذي جاءت به اشهر التفاسير هو عالم من بني اسرائيل ، فلما غزا سيدنا موسى عليه السلام البلد الذي هو فيه وهم كفار ، كان هذا العالم والحبر اليهودي مجاب الدعوة حتى اتاه قومه ليطلبوا منه بقولهم ان هذا الذي يريد غزوهم واخراجهم من بلدتهم وقتلهم ويحل البلد لبني إسرائيل وما نحن الا قومك فأدع الله عليهم ، فكان من قوله ويلكم وهذا نبي ومعه الملائكة والمؤمنون ، فكيف ادعو عليهم ؟ فما زالوا يطلبون ويتضرعون اليه حتى افتتن فأشرف على عسكر موسى عليه السلام وجعل لا يدعو عليهم بشيء الا صرف الله به لسانه الى بني إسرائيل ، فقال له قومه : انما تدعو علينا ، فقال هذا شيء لا املكه الا انه دعا الا يدخل موسى ومن معه البلدة فوقعوا في التيه ، ودعا عليه موسى عليه السلام ان يخلع عنه وينسلخ ويُنزع منه الاسم الاعظم .
وقوله تعالى ” ولو شئنا لرفعناه بها ” اي لرفعنا عنه الكفر بآياتنا ” ولكنه اخلد الى الارض ” بمعنى ركن الى الدنيا وسكن ” واتبع هواه ” اي انقاد الى ما دعاه اليه الهَوى ، وهذه الاية اشد الايات على العلماء اذا مالوا عن العلم وركنوا الى الهوى ” فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث ” فالكافر ان زجرته لم ينزجر وان تركته لم يهتد ، كالكلب ان طرد كان لاهثا وان ترك يبقى لاهثا .
وبالحديث عن هذه الآية الكريمة ، انما اراد الله مثلا لصاحب العلم الذي لم ينتفع بعلمه والاسوأ من ذلك ان يتحول العلم لدى مثل هؤلاء العلماء الذي انعم الله سبحانه وتعالى عليهم وخاصة في مواقع الفتن والشدائد وغيرها فينسلخ ويضلل الناس ويلبس عليهم ويستغل ما علمه الله من الحق في التلبيس وضلال الناس وغوايتهم ، حتى جاء تشبيه عمله كمثل الكلب الذي اشارت اليه الايه الكريمة حيث ترك العلم الذي علمه اياه الله سبحانه وتعالى واتبع هواه وآثر سخط الله وغضبه عليه على رضاه ودنياه على آخرته ، فشبَّه الله اتباع الهوى كلهث الكلب الدائم في حال ازعاجه او تركه ، وهو في الاخير كمن اوتي الكتاب ولم يعمل به .
نسأل الله تعالى ان ينتفع اهل علمه بما علّمهم وان لا يتبعوا الهوى فيصبحوا على ما فعلوا نادمين ، اقول قولي واستغفر الله لي ولكم ، ربنا علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
……………………………………………………………