حين يتكلم الحنين بعد الصمت
بقلم/نشأت البسيوني
هناك حنين يا صديقي لا يشبه شيئا في هذا العالم
يأتيك فجأة بلا إذن كنسمة باردة من ماض دفين
يهز أعماقك التي ظننتها هدأت
ويعيدك بخطوات واهنة إلى زمن كنت تظن أنك تجاوزته
هو ليس شوقا عابرا
بل حالة تغرقك بين لو أن وليت
وتجعلك تسمع أصواتا لم تعد موجودة
وتتذكر وجوها رحلت لكنها تركت أثرا لا يمحى
حين يتكلم الحنين بعد الصمت
تكتشف أن الذاكرة لا تموت
وأن القلب لا ينسى مهما حاول
كل الأغاني القديمة تعود لتوجعك
وكل الأماكن التي مررت بها ذات يوم
تصبح كأنها تستدعيك لتراك حائرا بين الذكرى والواقع
تجلس في وحدتك
تتأمل اللاشيء
ثم تبتسم ابتسامة مبللة بالدموع
كأنك تعاتب نفسك قائلا
أما زلت هناك أما زال جزء منك ينتظر
الحنين يا صديقي ليس ضعفا
بل دليل على أن القلب ما زال حيا
وأن هناك أرواحا مرت بنا
لم تكن مجرد محطات
بل كانت أوطانا صغيرة سكنتنا
حتى وإن غابت بقيت تشعل فينا دفء الذكرى
حين يتكلم الحنين بعد الصمت
يعيد ترتيبنا من الداخل
ينفض غبار النسيان عن ملامح كدنا نهملها
ويخبرنا أننا لم نشفى بعد
قد نحاول أن نقنع أنفسنا أن كل شيء انتهى
لكن الحقيقة أن بعض النهايات لا تنتهي
بل تبقى عالقة في صدورنا كأغنية ناقصة
كلما حاولنا إسكاتها عادت لتكمل نفسها في الحلم
يا صديقي
الحنين ليس دائما مؤلما
أحيانا يكون طيفا جميلا يربت على كتفك
ويهمس في أذنك
لقد مررت بكل هذا ونجوت
يذكرك بأنك كنت قادرا على الحب
وعلى العطاء
وعلى أن تضيء قلوب الآخرين ولو لحظة
لكن حين يبالغ الحنين في حضوره
يصبح سيفا ذا حدين
يعيدك إلى أماكن لم تعد لك
ويجعلك تفتقد من لم يعد يراك
تحاول الهرب منه
لكنه يلاحقك في التفاصيل الصغيرة
في رائحة قهوة قديمة
في طريق كنت تمر بهما سويا
في نغمة هاتف مألوفة
في لحظة غروب تشبه آخر لقاء بينكما
وحين لا تجد مهربا
تستسلم
تفتح قلبك له
وتدع الحنين يتكلم كما يشاء
فهو في النهاية لا يأتي ليؤذيك
بل ليذكرك أنك كنت يوما صادقا
نقيا
تحب بكل ما تملك
وتعيش التفاصيل كما لو أنها آخر ما تملك من الحياة
وحين ينتهي الحنين من حديثه
يتركك خفيفا كأنك بعثت من جديد
كأنك نزعت شوكة الذكرى من صدرك
ونظرت إلى الماضي بعين أقل وجعا
وأكثر امتنانا
تدرك وقتها أن الحنين ليس لعنة
بل صلاة من نوع آخر
تعيدك إلى نفسك
إلى قلبك الحقيقي الذي لم يفسده العالم بعد
وفي النهاية يا صديقي
حين يتكلم الحنين بعد الصمت
لا تحاول إسكاته
بل استمع له قليلا
ثم ابتسم وقل
لقد مر كل شيء وبقيت أنا أكثر هدوءا وأكثر نضجا
جريدة الوطن الاكبر الوطن الاكبر ::: نبض واحد من المحيط الى الخليج .. اخبارية — سياسية – اقتصادية – ثقافية – شاملة… نبض واحد من المحيط الى الخليج 