“الكمين المالي وتشكل الوعي الشعبوي”

 

 

كتبت: منى العساسي

تم النشر بواسطة:عمرو مصباح

فلسفة حروب العصابات تقوم على إدراك دقيق لمعنى القوة. الذي يتحرك في الظل يستخدم الزمن والذكاء وسيلة بقاء معتمدا على المرونة والمباغتة، ويتقن الانتظار أكثر مما يتقن الهجوم. هذا النمط من الحرب يعتمد على معرفة النفس والبيئة والعدو في آن واحد، وعلى تحويل الفارق في القوة إلى أداة تفوق. ففهم التوازن وإجادة التخفي والوقت هم مفاتيحه للهيمنة.

بهذا الوعي يعمل النظام المالي العالمي. فالقوة الاقتصادية الحديثة تبني حضورها على التخطيط الصامت والاختراق البطيء. المال والعقوبات والعقود التجارية تتحرك مثل وحدات خفية تعيد رسم خرائط النفوذ من الداخل. الدول التي تنخرط في السوق الدولية تدخل شبكة من الاعتماد المتبادل تمنحها فرصًا وتفرض عليها قيودًا في الوقت نفسه، لذلك فالكمين المالي يقوم على بناء الحاجة قبل فرض السيطرة. فحين يرتبط الاستقرار بتدفقات المال وأسعار الفائدة، يتحول القرار السياسي إلى امتداد لزمن السوق. التأثير الاقتصادي يتسلل ببطء حتى يغدو منظومة ضبط تحكم سلوك الدول والجماعات من خلال الاعتماد والرغبة في الاستقرار. تتجلى قوة هذا الكمين في الاستثمار داخل الدول المدينة. فالمشروعات الأجنبية التي تبدو فرصة للنمو تحمل في بنيتها أدوات النفوذ. رأس المال يعيد تشكيل الاقتصاد وفق مصالح الدائنين، والديون تفتح الأبواب للتمويل لكنها تسحب القرار من الداخل. ومع تراكم الالتزامات، تتحول السيادة إلى سلسلة من التوازنات المفروضة التي تحددها شروط القروض وجدول السداد.الاستثمار هنا يتحول إلى وسيلة إدارة لا وسيلة تنمية. فالبنية التحتية والطاقة والمصارف تصبح أدوات للهيمنة المقنّعة، تتحكم فيها المعادلات المالية قبل السياسات الوطنية. السيطرة الاقتصادية تعمل من داخل الأنظمة، وتعيد صياغة أولوياتها دون أن تُعلن حضورها، الكمين المالي هو النسق الجديد للصراع العالمي. قوة تتحرك من وراء الاقتصاد وتعيد ترتيب العالم وفق موازين غير مرئية. من يمتلك تدفق المال يمتلك القرار والزمن معًا، ويحول السوق إلى ساحة نفوذ دائمة تُمارس فيها الحرب بأدوات صامتة وبإيقاع لا يتوقف.

في هذا المشهد، يصبح الإنسان البسيط جزءًا من الكمين. يعمل ويستهلك ويقترض داخل منظومة تخلق حاجته وتوجّه اختياره. وعيه الاقتصادي يتشكّل وفق الآلية نفسها التي تعمل بها دولته، مدينةً كانت أو دائنة. يقيس ذاته بما يملك، فتتولد لديه رغبة محمومة في التملك حتى لو افتقر إلى مقوماتها المعرفية أو المادية. يتحول المال إلى مرآة للمعنى، وتغدو الحرية فعلًا محاصرًا بالإمكان المالي.الإنسان المستهلك يعيش داخل معادلة عالمية دقيقة، يتوهم أنه فاعل بينما يتحرك ضمن نظام صُمّم لاحتوائه وإعادة إنتاج سلوكه. ومع تراكم الديون واتساع الفجوة بين الحاجة والقدرة، يتطور السلوك الاستهلاكي في الدول المدينة نحو نمط من الاستلاب الاقتصادي، حيث يصبح الاستهلاك تعويضًا رمزيًا عن فقدان السيطرة. يتحول شراء السلع إلى فعل مقاومة وهمي يمنح شعورًا بالانتماء إلى العالم الذي يفرض شروطه. وهكذا تغدو الأسواق أشبه بمسرح نفسي جماعي، تُدار فيه الرغبات بدقة تفوق إدارة الثروات، فكلما ازدادت الشعوب استهلاكًا، ازدادت خضوعًا لمن يصنع حاجتها ويقيس إيقاعها. الاقتصاد يهيمن بالاعتياد ويفرض سلطته بالإقناع، حتى يغدو الوعي الشعبوي جزءًا من المنظومة التي تستنزفه.

شاهد أيضاً

انطلاق مهرجان ساحة المبدعين العرب ديسمبر القادم برئاسة المهندسة عبير علي.. رئيس مجلس إدارة قناة “العاصمة الجديدة ”

    كتبت: مروة نور الدين تم النشر بواسطة: عمرو مصباح في إطار أحتفالاتها بمرور …

بنجاح ساحق لحفل شركه إنجاز المهندس هشام أبو غانم يتربع على قمة شركات التشطيبات والديكور

    كتبت:مروة نور الدين تم النشر بواسطة: عمرو مصباح أقامت شركة إنجاز مصر للعقارات …