الجزء الرابع: الفكر الديني والفلسفي في التراث العربي الإسلامي
مع الدكتور السيد إبراهيم أحمد
تحاورُه: الكاتبة والإعلامية السورية روعة محسن الدندن
أدارت الحوار:
الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن مديرة مكتب سورية في الاتحاد الدولي للصحافة والإعلام الإلكتروني، مديرة مكتب أخبار تحيا مصر في سورية، مستشارة رئيس التحرير لجريدة أحداث الساعة.
ضيف الحوار:
الدكتور السيد إبراهيم، رئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام، وعضو شعبة المبدعين العرب ـ جامعة الدول العربية، ورئيس قسم الأدب العربي ـ اتحاد الكتاب والمثقفين العرب – باريس.
لننتقل في هذا الجزء الهام من حوارنا المعمق إلى أفق الفكر الديني والفلسفي، حيث تتجلى الروح العميقة للتراث العربي الإسلامي في تأملاته المعرفية والروحية. الفكر الديني الذي تشكّل عبر القرون كان أساسًا لفهم العقيدة وتنظيم الحياة، وشكّل منبراً للتجديد والاختلاف والتنوع داخل المجتمع الإسلامي.
كما حملت الفلسفة الإسلامية إرثًا معرفيًا استثنائيًا، استطاعت من خلاله التفاعل مع الفلسفات العالمية، وتقديم رؤى فريدة جمعت بين العقل والنقل، والتأمل الديني والفلسفي.
أما التصوف، فقد شكّل بُعدًا روحيًا وإنسانيًا عميقًا، تميز بالتجربة الشخصية والبحث عن الحقائق الروحية، مقدمًا نموذجًا ثقافيًا وأخلاقيًا غنيًا ومتجدداً.
معنا اليوم الدكتور السيد إبراهيم، الخبير المتميز في تاريخ الفكر الإسلامي، لنغوص في هذه العوالم الفكرية، ونكشف النقاب عن أبعادها المتعددة، ودورها في تشكيل الهوية الثقافية والدينية لشعوبنا.
دكتور إبراهيم، نرحب بك مجددًا، وننتظر مشاركتك القيّمة في هذا النقاش العلمي الرصين.
١ـ كيف تشكّلت العلوم الإسلامية الأولى كعلم التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله؟
لقد نشأت العلوم الإسلامية الأولى بفضل جهود العلماء المسلمين من أجل فهم وتفسير النصوص الدينية، ومع توسع الدولة الإسلامية، تطوّرت منهجية جمع الحديث وتصحيحه، وظهرت كتب الحديث الشهيرة مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم.
وأول ما عرف الناس من هذه العلوم “علوم القرآن”، التي تحتوي كل ما يتعلق بالتنزيل الحكيم عن طريق الوحي وجمع نصوصه، والتعريف بأسباب نزول الآيات، والأحرف التي نزل بها القرآن والرسم العثماني للمصحف، والإعجاز القرآني والنسخ في القرآن، والقصة القرآنية، وكيفية نزول القرآن والمكي والمدني. وأصبح علم التفسير هو ثاني العلوم، ويقصد به العلم الذي يتحدث عن ما في القرآن، من حيث النزول والدلالات اللغوية للنص القرآني الحكيم، من حيث العموم والخصوص والمطلق والمقيد وعن المعاني المستفادة من النص القرآني من حيث الأحكام والتوجيهات والعبر والقصص.
وبيان مراحل علم التفسير الأربعة، وهي: التفسير على عهد رسول الله ﷺ، والتفسير على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، والتفسير في عهد التابعين، والتفسير في عصر التدوين ابتداء من القرن الثاني الهجري، وتقسيم التفسير إلى التفسير المأثور الذي يعتمد على الرواية، وينقل المفسّر ما قاله الصحابة والتابعون من أقوال في تفسير الآية، ثم تعداه إلى التفسير بالرأي، والتفسير الموضوعي، ثم تنوعت كتب التفسير وكثرت وتعدد معها أساليب المفسرين، حيث حاول كل مفسر أن يركز على اختصاصه مما يراه هو الأهم في نظره، وهناك عشرات التفاسير المختلفة في المكتبة القرآنية.
٢ـ وماذا عن نشأة علم الحديث دكتور إبراهيم؟
نشأ هذا العلم مع نشأة الحديث الشريف في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الواضع لجذور هذا العلم وأسسه، وقد أولاه صلى الله عليه وسلم عناية كبيرة لأنه الوسيلة التي يعرف بها دين الله، ولهذا حفظ الصحابة الأحاديث الشريفة، وتناقلوه فيما بينهم ، كما كانت مرجعهم حين يختلفون أو يُشكل عليهم أمر من أمور الدين، ونستطيع القول بأن جميع أحاديثه صلى الله عليه وسلم كانت محفوظة عند مجموعهم، لكن لم يجمع واحد منهم كل المروي من الحديث، وتحمَّل الصحابة رضي الله عنهم عبء تبليغ هذا الأصل الشرعي بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى من بعدهم، لكي لا يضيع حديثًا واحدًا منه، وأيضا من أجل أن يحموا نصوص الأحاديث من أن يدخل فيه ما ليس منها.
وكان علماء الصحابة والتابعين يعتمدون في بداية الأمر على الحفظ والرواية، إلا أن التدوين صار ضرورة ملحة لضبط الروايات المأثورة، حفظاً لها، وضبطاً لمدلولاتها، وبخاصة بعد ظهور حركة الوضع في الحديث التي استهدفت نسبة روايات مكذوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، بهدف تضليل المسلمين، لتبدأ رحلة تدوين السنة بشكل رسمي في عهد عمر بن عبد العزيز على رأس القرن الأول الهجري غير أنها قد مرت بالكثير من العقبات الأمر الذي دعا لظهور علم جديد أسموه “علم مصطلح الحديث”، والهدف منه تمكين رجال الحديث من تدوين السنة بطريقة صحيحة بحيث يتمكن المحدّث من تمييز الحديث الصحيح من غيره عن طريق اعتماده على منهج استقرائي في منتهى الدقة يستهدف البحث عن الرواة وتصنيف ما يروى عنهم من أحاديث بحسب درجة عدالتهم.
٣ـ نصل معكم أستاذنا إلى نشأة علم الفقه؟
كاتبتنا الكبيرة تعلمين أن تاريخ الفقه الإسلامي وتواريخ نشأة العلوم وتطورها وتدوينها أمرٌ طويل، لكن عليَّ أن أوجزها دون إخلال، وأبدأ بما بدأ به سادتنا العلماء بتعريف الفقه، بأنه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، والمكتسبة بمعنى المستنبطة بالنظر والاجتهاد، أما المراحل التي مرَّ بها الفقه الإسلامي، فعلينا أن نبدأ من العهد النبوي المكي والمدني معا، ومن المعروف أن التشريعات كانت قليلة في العهد المكي تبعًا لظروف الدعوة الوليدة، بينما تميز العصر المدني بتوضيح الأحكام التشريعية التفصيلية الخاصة بعبادات المسلمين ومعاملاتهم، ثم جاء عصر الصحابة الذي تجددت فيه وقائع وأحداث لم يجد الصحابة نصوصا على حكمها، فدخلوا ميدان الاجتهاد والاستنباط من القرآن والسنة، ثم جاء عصر التابعين وهم الذين تتلمذوا على أيدي الصحابة الكرام، فكانوا واسطة العقد وحلقة الوصل بين جيل الصحابة وبين جيل أئمة المذاهب الفقهية.
وهنا أشير إلى نشأة المدارس الفقهية التي ظهرت في عصر التابعين وأبرزهما: مدرسة الحديث ومدرسة الرأي: ومدرسة الحديث أو المدرسة المدنية، فكانت في المدينة المنورة حيث كان فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصار عمل أهل المدينة حُجة عند علماء هذه المدرسة في الأحكام، ولم يذهبوا إلى استخدام الرأي إلا نادرًا.
ونشأت مدرسة الرأي في الكوفة بعد انتقال عدد من الصحابة إليها ومنهم عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر، وعانت هذه المدرسة من كثرة الوضع على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور العديد من الحوادث التي لم يكن فيها نص، فكان الاعتماد على الحديث المتواتر والمشهور أولا، ثم الرأي والاجتهاد.
وجاءت مدرسة الإمام الشافعي الفقهية الجامعة بين مدرستي الرأي والحديث، وذلك لأن الشافعي تتلمذ على يد الإمام مالك إمام مدرسة الحديث في الفقه، وأيضًا تتلمذ على فقه الإمام أبي حنيفة وأخذ عنه.
٤ـ هكذا نكون قد وصلنا إلى بوابة علم أصول الفقه ونشأته.. أليس صحيحا؟
بالفعل، ظهر علم أصول الفقه ليستنبط منه العلماء الأحكام الشرعية من الأدلة عبر منهجية منضبطة، وقد مر بثلاث مراحل: وأولها النشأة والتكوين في العهد النبوي عندما كان الصحابة رضي الله عنهم يستفتونه صلى الله عليه وسلم في جميع أمور دينهم، وكان يُفتيهم فيما أشكَل عليهم؛ إذ لم يكن مجالٌ للاجتهاد، ولَمَّا مات صلى الله عليه وسلم، أخذ الصحابة فتواهم من الكتاب والسنة، ثم ما لبثوا أن لجأوا إلى الاجتهاد بعد اتساع الجغرافية المكانية للدولة الإسلامية ودخلت شعوب مختلفة الإسلام، ووقعت نوازل جديدة لم تكن موجودة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان ثاني المراحل هو نضوج وازدهار هذا العلم الوليد، ودخول عهد التابعين بعد رحيل جيل الصحابة، فساروا على نهجهم، وكانوا يأخذون فتواهم من الكتاب والسنة، والإجماع، وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم، فإن لم يجدوا لجؤوا إلى الاجتهاد، والقياس، وكان لكل إمامٍ من أئمة التابعين قواعد، وأصول للفتوى والاجتهاد، غير أنه لم يدون قواعد علمه في كتاب مستقل.
ثم جاءت المرحلة الثالثة التي شهدت اكتمال وتدوين علم أصول الفقه في القرن الثاني الهجري، لأسباب تتصل بوقوع نوازلَ جديدة ليس لها سوابق، وكثرة المناظرات والمجادلات بين المدارس الفقهية المختلفة، وكثرة الوضع في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وضَعف اللغة العربية لكثرة دخول العجم في الإسلام، ويعد الإمام الشافعي أول من كتب في علم أصول الفقه، وضمه كتاب “الرسالة”.
ويطيب لي أن أنوه على أن هذا العلم منشأه إسلامي، ولم يسبق أن كان هناك مثل هذا العلم في فلسفة سبقت الفلسفة الإسلامية، وهو أحد فروع الفلسفة الإسلامية لاحتوائه على الجدل والخلاف كعلم وصلته وطيدة بعلم المنطق، بل أن علم أصول الفقه ينتمي إليه أربعة علوم وهي: علم المنطق، وعلم الجدل، وعلم الخلاف، وعلم المناظرة، وكلها من العلوم التي تتصل بيقين بعلم الفلسفة.
٥ـ ما أثر المدارس الفقهية والمذهبية في بناء منظومة فكرية متعددة داخل الإسلام؟ وهل يُعد هذا التعدد غنى أم سببًا للفرقة؟
وأنا بدوري سأعيد صياغة سؤالك بمفهوم عصري مباشر: هل كان أثر المدارس الفقهية والمذهبية إيجابي أم سلبي للمسلمين؟ ومن خلال إجابتي سيتبين القارئ مدى مساحة الإيجابية والسلبية التي تولدت جراء هذا التعدد.
لقد تنوعت مدارس الصحابة بحسب البلاد التي نزلوا فيها، وكانت كل مدرسة هي عبارة عن الروايات التي نقلها الصحابة واجتهاداتهم، وتأثر وحفظ كبار التابعين بتلك المرويات والاجتهادات وأضافوا إليها أيضا اجتهاداتهم فيما استجد من حوادث ونوازل. وهو ما يعني أن المذاهب الفقهية الأربعة كانت امتدادات لمدارس الصحابة، وقد بقيت المذاهب الفقهية الأربعة تتناقل الفقه جيلاً بعد جيل، وما يتم إضافته من اجتهادات في كل عصر، حتى صار عندنا في عصرنا هذا فقهاً أصيلاً يربط بين فقه السلف وفقه الخلف، بل أيضا قادر على التعامل مع النوازل والمستجدات المعاصرة.
وهذا التعدد وفر تنوعًا اجتهاديًا واسعًا في فهم النصوص، مما أغنى التراث الفقهي وفتح أفقًا واسعًا لاستيعاب مستجدات الواقع، كما كان لهذا غنى وتكامل؛ إذ احتوى الاختلافات المتنوعة بأسس علمية، ونجم عنه ثروة فكرية ساعدت وتساعد في تجديد ومرونة التشريع ولا يجب أن يكون سببًا للصراع، بل ترك فضاءً واسعًا للحوار والاحترام المتبادل بين علماء المذاهب لصالح الأمة الإسلامية، وفرصة لتطوير الفكر الإسلامي وتفسير النصوص الدينية طبقًا لتنوع الفهم لهذه النصوص، والاجتهاد والبحث فيها.
وهذه المذاهب الفقهية لا تعمل على التفرقة بين المسلمين ولا تفرض تشريعًا جديدًا على الأمة، وإنما هي مناهج لفهم شريعتنا السمحة، وأساليب في تفسير نصوصها، وطرق في استنباط الأحكام من مصادرها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والأمر الذي يغيب عن بعض المسلمين أنه لا يجب الالتزام بمذهب فقهي معين منها، وإنما الذي يجب أن يلتزم به المسلم هو القرآن الكريم والسنة المطهرة. والقاعدة: أنه حيث ظهر الدليل فهو المعول، ولا يجوز العدول عنه إلى قول أحد كائناً من كان، فلا يدفع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد، ولا عذر لأحد عند الله في اتباع قول يعلم أن الدليل ثابت بخلافه، ومن هنا يعلم أن ما ينتهجه بعض الناس في الفتيا بكل قول سيق إليه وإن كان الدليل بخلافه ـ بزعم التيسير على المسلمين ـ لهو من أشد الأمور خطرًا على من أفتي وعلى من أطاع فتاواه.
لكن تكمن السلبية في من يُحوْل الخلاف إلى فُرقة بسبب تعصب كل مسلم لمذهبه، وتقليد شخص معين أو أشخاص دون غيرهم في جميع أقوالهم أو أفعالهم، بل لا يرى الحق إلا فيما يقولون ويذهبون إليه، وهو بذلك يخالف سَعة الإسلام ومرونة التعامل مع التنوع.
وقد تعلمتُ من أستاذي فضيلة الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي أن انتشال وانتزاع العصبية المذهبية يكمن في الأخذ بالفقه المقارن باعتباره أحسن منهج يعبر عن حيوية الفكر الإسلامي ويبين الرأي الراجح من المرجوح بعد جمع أدلة المذاهب. مع التأكيد بأن المذاهب الفقهية هي خير والاختلاف فيه رحمة ويحقق مصلحة الأمة وقد يضيق الإنسان برأي مذهبي معين فيقلد ومسموح له شرعا أن يقلد مذهبا آخر فيما يحق الضرورة أو الحاجة له وهذا من ثمرات هذه المذاهب ووجود الاختلافات فيها فحيث انقطع الوحي ولم نعد نعرف ما هو الرأي الصائب فحينئذ يكون تقليد كل إمام فيما لا يقول به الآخر هو تقليد مشروع ومأذون به شرعا، ذلك أن الانغلاق على مذهب واحد سيؤدى إلى ضيق الأفق وضيق الفكر.
٦ـ كيف ساهم علم الكلام في الدفاع عن العقيدة الإسلامية أمام الفلسفات الوافدة؟
أشرتُ من قبل وأشير إلى التعريف بعلم الكلام بأنه العلم الذي يبحث في إثبات العقائد الدينية بالدليل العقلي والنقلي، ويدافع عنها ضد الشبهات، وهو علم يركز على فهم صفات الله، وأركان الإيمان، ويستنبط المعتقدات من القرآن والسنة، ثم يوضحها ويواجه الاعتراضات عليها، ما يعني في إيجاز أنه علم يجمع بين العقل والنقل لحماية العقيدة الإسلامية وتوضيحها بشكل منطقي، وكان علماء الكلام هم الأبرز في الدفاع عن عقيدتهم التوحيدية ضد أصحاب ورموز الفلسفات والمعتقدات الوافدة.
لقد ربط علم الكلام بين الحجج الفلسفية والمسائل العقدية، مستفيدًا من المناهج الفلسفية لتوضيح وتأكيد مفاهيم العقيدة الإسلامية، مما جعله علمًا ذا طابع دفاعي وعقلي في آن واحد، وأثبت أن المبادئ الأساسية للعقيدة الإسلامية لا تتعارض مع الحقائق العقلية، بل هي متوافقة معها بل مع الاكتشافات العلمية الحديثة، وهو ما يُسهم في إظهار قوة المنطق الإسلامي ومرونته.
لذا نشأ علم الكلام نتيجة لأسباب متضامنة، وعوامل متضافرة اقتضت ظهوره في تاريخ الفكر الإسلامي، وبعد أن كانت أدلته العقلية في خدمة عقائد القرآن وآياته أصبح القرآن وآياته أداة في يد تلك التيارات والفرق والطوائف التي صارت تطوعه لنصرة آرائها واتجاهاتها، مما جعل طائفة من العلماء ترفضه ـ أي علم الكلام ـ وتشكك في جدواه، بل تطعن فيه.
٧ـ ما الفرق بين الفكر الديني التقليدي والفكر المقاصدي أو التجديدي داخل التراث الإسلامي؟
غالبًا ما يلتزم الفكر الديني التقليدي بالحرفية والموروث الفكري السالف، لذا فهو يركز في الحفاظ على النصوص الظاهرة وتفاصيل الأحكام الفقهية التي وردت في كتب التراث دون تفكير عميق في روحها أو مقاصدها العامة التي قدمها العلماء والفقهاء من السابقين، وعدم الاستجابة للمستجدات، وصعوبة التكيف مع التحديات والمتغيرات الجديدة في الحياة الحديثة، مما يخلق حالة من الجمود، ومقاومة أي فكر أو ممارسات لا تتفق مع التفسيرات السابقة، بما في ذلك محاربة البدع والخروج عن التقاليد.
بينما يوازن الفكر المقاصدي بين النصوص والقواعد المستمدة منها، ويربط بين السبب والمسبب، وبين العلة والأثر المترتب عليها، ويستشرف المآلات والنتائج بما يحقق صلاحية الشريعة الإسلامية واستمرارها وحاكميتها، فهو يركز على “مقاصد الشريعة” ومصلحة العباد وروحها بما يحقق التكيف مع العصر وواقع الحياة المتجدد، مع الحفاظ على الأصالة والثوابت الدينية، مما يثبت أنه فكر يملك نهجًا أكثر ديناميكية وعمقًا، يسعى لتجديد الفقه الإسلامي ويربطه بحاجات الناس عبر الأزمنة.
٨ـ هل نشأت الفلسفة في الحضارة الإسلامية بتأثير يوناني خالص، أم أن لها جذورها في القرآن والتأملات الإسلامية؟ وهل تعاملت مع مسألة “العقل والنقل”؟ وهل كان هناك صراع أم تكامل؟
إن الفلسفة الإسلامية فلسفة أصيلة على الرغم من محاولات البعض إنكار هذه الأصالة فيها بدعوى أن المسلمين خلا تاريخهم من التفلسف ومن التعرض للقضايا الفلسفية، وأن العقلية الإسلامية ينقصها العمق والبحث في المذاهب الفلسفية المعروفة المختلفة، بزعم أن الفلسفة الإغريقية قد سادت الفلسفة ولم تترك لأحد من بعدها مبحثًا يفكرون فيه، ولن يكون لهم غير النقل عن اليونانيين فقط دون الإضافة أو الإبداع. وهو ما يتناقض مع دين الإسلام الذي يرفض تقييد العقل الإنساني، ويرفض أيضا التقليد الأعمى والتبعية الفكرية، كما يرفض الشعوذات والخرافات والأوهام، لهذا أطلق العنان للعقل الإنساني وتحريره من القيود التي تعوقه عن أداء دوره، مع الالتزام بمبدأ المسؤولية الشاملة.
لم يشتهر المسلمون بالفلسفة في ماضيهم أو حتى قبل أن يدينوا بدين الإسلام، ولكن اطلاع المسلمين على الحضارات السابقة، واتصالهم بالفكر اليوناني، واطلاعهم على ترجمة بعض كتابات وأفكار الفلاسفة اليونانيين قد أظهرت الفلسفة والمنطق الأرسطي في الفكر الإسلامي.
لم تكن الفلسفة اليونانية واحدة بل كانت تيارات عدة، لكن المسلمين اتجهوا إلى الفلسفة الإلهية التي نُسبت لأرسطو وإلى الأفلاطونية الحديثة، وإلى المنطق الأرسطي وقوانينه وتحوير ذلك المنطق لصالح الشريعة، وتقيد المفكرون المسلمون بمبادئ دينهم أكثر من مسيحيي العصور الوسطى، وفي الفترة التكوينية للفلسفة في العالم الإسلامي وصولاً إلى القرن الثاني عشر، ارتبطت الفلسفة بالثقافة اليونانية بصورة قوية، ولهذا السبب تم النظر للفلسفة بأن تكون خارج العلوم الإسلامية، وإنها لم تؤسس في الملكوت الديني، وعلى الرغم من أن الفلاسفة الأوائل من المسلمين انتهجوا نهج الفلسفة الإغريقية التقليدية في موضوعاتها التي تتصل بالطبيعيات والإلهيات والرياضيات ودراسة المنطق الذي اعتبروه مدخلًا لهذه العلوم، فقرأوها ونقلوها وشرحوها وعلَّقوا عليها وصوبوا بعضها وأضافوا إليها إلا أنهم قد استطاعوا أن يضيفوا جديدًا في هذا المضمار مما لم يكن معلومًا قبلهم وهو التوفيق بين الفلسفة والدين أو بين العقل والنقل، القائم على قاعدة أن الحق لا يتناقض مع الحق.
ولقد كانت لهم محاولة سابقة في التوفيق بين آراء الفلاسفة الإغريق تمثلت في التوفيق بين أفلاطون ونزعته الصوفية وبين أرسطو واتجاهه العقلاني الصرف؛ فالفلسفة الإسلامية لا يمكن أن يتعارض فيها العقل مع النقل بل يجب أن تتوازى فيه صحة النقل مع صحة النقل، وإذا تعارض المنقول مع المعقول فلابد من الأخذ بالنقل اعتمادًا على إلهية النص ومصدره، وقد شكلت العقيدة الإسلامية الفلسفة الشاملة التي انتهجها المسلمون في أمور دنياهم وحياتهم وأخراهم، وهذا ما يشكل أصالتها في وجدانهم، وأنها لا تخلق صراعًا بل تكامل.
٩ـ دكتور إبراهيم: أين تتجلى إذًا مظاهر الإسهام الفلسفي اليوناني في تشكل الفلسفة الإسلامية؟
نجد حضور الأثر الفلسفي الإغريقي داخل بنية الفلسفة الإسلامية على مستوى المفهوم الفلسفي، باعتبار أن الفيلسوف المسلم، ومنذ البداية، اشتغل بالمفهوم اليوناني للفلسفة ومضامينها، إلا أنه على الرغم من صياغة الفيلسوف المسلم لقضايا وإشكاليات خاصة به، أفرزتها شروط ثقافته ومجتمعه العربي الإسلامي، فإنه اشتغل بقضايا فلسفية كما صاغها فلاسفة اليونان، واستعاد في الوقت نفسه المحتوى المعرفي الذي ضمنوه لتلك القضايا، وذلك في صورة عرض أو شرح أو تلخيص أو تعليق.
ولا يعني ما سبق أن الفلسفة الإسلامية ليست سوى تكرار لفلسفة اليونان، كما يرى بعض المستشرقين، بل أقصد بذلك أن فلسفة اليونان، قضاياها ومحتوياتها، شكلت مادة للتفكير الفلسفي في الإسلام، فكانت جزءًا لا يتجزأ من بنيته، ومكوناً جوهريا من مكوناته، دون إغفال خصوصية الفلسفة الإسلامية، انطلاقا من خصوصية واقعها العربي الإسلامي.
١٠ـ لاحظت دكتور من خلال دراساتك حول التراث العربي الإسلامي.. التركيز على المركزية الغربية، والسؤال: ما موقف هذه المركزية من الفلسفة الإسلامية؟
ملاحظة صائبة ودقيقة.. نعم ؛ لقد كان الفيلسوف المسلم يفكر باستمرار بواسطة الفلسفة اليونانية، حينما تأخذ باهتمامه مسألة الحكمة والشريعة، سواء بدمجهما أو بالفصل بينهما، بينما يستلهم فلاسفة المسلمين وعيهم الفلسفي من الفلسفة اليونانية، وسبب هذا يكمن في توجههم إلى إثبات مشروعية خطاب (الحكمة) لم يكن إلا تفكيراً في الحكمة الإغريقية، واستحضاراً لفلسفة اليونان، حيث تمثل الفلسفة اليونانية ماضي الفكر الفلسفي الإسلامي باعتباره مكوناً للفلسفة الإسلامية؛ لأنه لم يكن هناك بالنسبة لفلاسفة الإسلام من تراث فلسفي آخر غير الفلسفة اليونانية، فلسفة أفلاطون وأرسطو الذي قال عنهما الفارابي بأنهما: (الحكيمان المُقدَّمان المُبرزان).
هذا في الوقت الذي تفترض فيه المركزية الأوروبية أن تاريخ الفلسفة ليس إلا تاريخ الفلسفة الغربية، فالفلسفة نشأت في اليونان، وكان هيجل يرى أن نشـأة الفلسفة كان في الغرب وفيه وحده أشرقت حرية وعي الذات وبذلك اختفى الوعي الطبيعي منطويًا على ذاته. كما يتبين أن معظم العوامل والظروف تضافرت طوال القرون الخمسة الأخيرة من تاريخ الغرب الحديث، لتعطي نوعًا من الشرعية لنظرية الطبائع العرقية، وبذلك فرض الغرب هيمنته الإقصائية، أي إقصاء كل ما هو لیس غربیًا خارج التاريخ الذي أصبح “الغرب” مركزه ، بل متمركزًا حول ذاته باعتباره المرجعية الرئيسة، وما عداه يسكن الهوامش.
وبهذا استطاعت العقلية الغربية أن تؤسس لعقلية موحدة، وظهرت فكرة أن الإنسان الأوروبي أكثر تحضرًا وعقلانية وأرقى سلالة من الشعوب الشرقية، وهو ما يعني أن هذه الشعوب أكثر تخلفا وهمجية، ولم يكن مستغربًا طبقًا لهذه النظرة الفوقية الاستشرافية الاستعلائية أن تنكر إنكارًا صريحًا التراث الفلسفي الضخم في الهند، وأن الفلسفة العربية والإسلامية في القرون الوسطى ليست إلا شرحًا للفلسفة اليونانية! مع كون أنصار المركزية الغربية يقرون بأن اليونان قد تلقوا تراثا ضخما من المعارف العلمية من مصر وبابل ولكنهم في نفس الوقت يجعلون نشوء الفلسفة أشبه بالمعجزة، وأنها من تجليات العبقرية اليونانية.
ويبرز الآن اتجاه في أوروبا وشمال أميركا لجمع كل التقاليد غير الأوروبية في شيء واحد أطلقوا عليه اسم “الفلسفة غير الغربية” أو “الفلسفة العالمية”، على الرغم من أن الفلسفة الإسلامية تمثل الرد على الفلسفة الأوروبية إلى حد كبير ولا سيما أرسطو. وهو أمر يُثير العجب بشكلٍ خاص عند “بيتر أدامسون” الأكاديمي الأميركي وأستاذ الفلسفة العربية والقديمة المتأخرة بجامعة “لودفيج ماكسيميليان” في ميونخ: (إذ كيف يُنظر إلى الفلسفة الإسلامية باعتبارها واحدة من الفلسفات غير الغربية؟! على الرغم من كونها على نقيض ما نجده في الهند أو الصين أو إفريقيا أو الأميركتين فترة ما قبل الاستعمار).
١١ـ ما إسهامات كبار الفلاسفة المسلمين (كالفارابي، ابن سينا، ابن رشد) في الفكر العالمي؟
إن المتصفح للتراث الفكري والعالمي في حقل الفلسفة يجد إسهامات الفارابي (المعلم الثاني) في إثراء الحضارة الإنسانية، وقد كان هذا عنوان مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة الذي انعقد في عام 2021م، وربما أسعفتني محاور المؤتمر لتدلل على مدى إسهامات الفارابي المتنوعة والعميقة؛ فقد كان عنوان المحور الأول: “إسهامات الفارابي في الجانب الفلسفي”، وعنوان المحور الثاني: “إسهامات الفارابي في الجانب الإنساني”، وعنوان المحور الثالث: “إسهامات الفارابي في علوم عصره”، وموضوعاته: إحصاء العلوم وتأثيره على الفكر العربي والأوربي ـ اللغة وفلسفتها عند الفارابي ـ علم المنطق والعلاقة بينه وبين العلوم الأخرىـ علم النفس والاجتماع ـ الطب والموسيقى الطبيعيات والفلك.
لعب الفارابي دورًا بارزًا في تطوير الفلسفة السياسية، وعلى الرغم من كونه استلهم أفكاره من أفلاطون وأرسطو، لكنه أضفى عليها طابعًا إسلاميًا، فاستحق أن يُلقب بـ”المعلم الثاني” بعد أرسطو، كما قدم نموذج “المدينة الفاضلة”، وتأثرت الفلسفة السياسية في أوروبا بأفكاره بعد ترجمة أعماله إلى اللاتينية، بل استخدم الفلاسفة الأوروبيون بعض مفاهيمه حول الدولة والمجتمع، مما كان لها أبعد الأثر في تشكيل الفكر السياسي في العصور الوسطى.
جاء الشيخ الرئيس ابن سينا بعد الفارابي بقرن أو يزيد، وقد كان فكره الفلسفي امتداداً لفكر الفارابي، حيث أخذ عنه فلسفته الطبيعية والإلهية، واهتم كثيراً بنظرية النّفس، وطورها، وعلى الرغم من أنه لم يُعَمر مثل الفارابي؛ إذ مات قبل أن يكمل الستين من عمره، إلا أن له إسهاماته التي أضاءت أجواء الفكر العالمي حتى الآن: “كتاب المعرفة، الإشارات والتنبيهات، كتاب النفس البشرية، القانون في الطب، وكتاب الأرصاد الكلية، وكتاب الأجرام السماوية، ورسال