نساء من الزمن القديم
أيمن دراوشة
قَطْرُ النَّدَى
صاحبة الزفاف التَّاريخي الأسطوري الهائل الَّذي تسبب في زوال حكم دولة الطولونيين نهائياً
يذكِّرنا عرس قطر الندى ، واسمها أسماء بنت خماروية بن أحمد بن طولون ، على الخليفة العباسي المعتضد بعرس بوران بنت الحسن بن سهل، على الخليفة المأمون ، رغم أنه قد مر بينهما زمن لا يقل عن سبعين عامًا.
لكن هذا الزفاف الذي لم يعرف التاريخ له مثيلًا ، قد بلغ من الضخامة حدًّا ، أدَّى لإفلاس وخراب الدولة الطولونية ، وانتهى بقدر مأساوي شامل.
فقد غدت مصر بعد انفراد أحمد بن طولون بحكمها ، دولة مستقلة ، وإن كان لا يزال للخليفة العباسي الحق في تعيين وعزل الحاكم عليها. لكن أحمد بن طولون تمكن من تدعيم نفسه ، وإرضاء مركز الخلافة في بغداد. وما أن خلفه ابنه خماروية في الحكم. حتى تقدم الخليفة المعتضد لخطبة ابنته أسماء المعروفة بقطر الندى ، فأراد خماروية بهذه المصاهرة أن يدعم استقلاله في مصر. وان يكسب تأييد الخليفة العباسي في بغداد.
ولهذا أراد أن يكون لهذا الزفاف برهانًا على قوته وعلى ولائه ، فبالغ في تجهيز ابنته قطر الندى ، وَجَرَّ الخراب والويلات على دولته وعلى نفسه وعلى ابنته أيضًا.
عاشت قطر الندى محاطة بكل وسائل الرفاهية والترف والفخامة ، وبالطبع كانت ذات جمال باهر ، وعقل راجح ، فلمع اسمها حتى أصبحت من أشهر نساء عصرها ، ليتقدم لها الخليفة المعتضد ليختارها زوجة له.
كان ابن طولون قد ثبَّت دعائم حكمه في مصر ، التي كانت قد انتقلت إلى نظام الوراثة ، فبنى دولة متطورة وغنية.
وحين خلفه ابنه خماروية كانت خزينة مصر عامرة ، والناس في يُسر ورخاء ونعيم ، وهذا ما دفع خماروية للمغالاة في تجهيز ابنته للخليفة . فقد جمع كل ما هو غالٍ ونفيس ونادر في أرض مصر فملأ ابنته بالذهب والماس والجواهر ، وليته اكتفى بذلك بل أرسل إلى بغداد مبلغًا خياليًّا ؛ ليستكمل شراء ما نقصه في مصر تكملة لجهاز العروس.
كما أمر خماروية ببناء سلسلة من القصور الفخمة على طول المسافة الفاصلة بين مصر وبغداد عاصمة العباسيين ؛ كي تنزل بها ابنته خلال رحلتها الطويلة ، وقد جُهِّزت هذه القصور بالخدم والحشم والجواري والموائد وكل ما يحتاج إليه الملوك ؛ حتى تظل ابنته منعمة بكل وسائل الراحة خلال الطريق.
وذات صباح خرج موكب قطر الندى ، وهي جالسة في هودجها بين الحشايا ، وكأنها في قصر الإمارة ، وكان في صحبتها عمها وعمتها وبعض الأمراء وقادة الجيش ، كما انتشر على طول الطريق حراس من الجند مدججين بالأسلحة ، ورافق الموكب موسيقى ذات أنغام شجية.
وسار الموكب حتى بلغ مشارف بغداد التي كانت الاحتفالات فيها قائمة على قدم وساق. فدخل الموكب وسط الطبل والزمر لتستقبله الجموع بالهتافات والزغاريد والأغاني ، وتقدم إليه الأمراء وقادة الجيوش ، وسارت السفن في نهر دجلة ممتلئة بالجواري والوصائف ، وهنَّ يحملن الشموع لاستقبال قطر الندى إضافة إلى أن المدينة قد زُيِّنت وَزُخرفت واستعدت لهذا الاستقبال الكبير.
وما أنْ رأى المعتضد قطر الندى حتى أخذت منه كل مأخذ ، وهو يلمح تلك الفتاة وكأنها زهرة تتفتح فوق غصنها بكل دلال وكمال.
في نفس الوقت كان الهم والغم والندم والخوف قد أطبقوا على نفس خماروية ؛ فتكاليف الزفاف الباهظة قد بلغت مبلغًا فاق التصور وتجاوز العقل ، وها هي الخزينة قد أصبحت خاوية فدخل الحزن وترسخت الكآبة في روح خماروية ، وما أنْ خرجت ابنته من أرض مصر حتى شعر وكأن كل شيء قد بدأ يهتز من تحت قدميه.
وقد أدَّى فراغ الخزينة ، إلى ضعف الدولة والسلطة ، ولم يكن من المنطق تعويض الخزينة بمدة قصيرة ، فكان هذا بداية التفكك والانحلال ، وهو أمر لم يستطع خماروية تحمله ، فمات بعد عامين من زواج ابنته.
كانت قطر الندى هي السبب ، فقد كان زواجها الأسطوري والمغالاة في تجهيزها ، إيذانًا بزوال طولة الطولونيين الفتية والتي نخر السوس عظامها في ليالي أفراحها.
ولم يمضِ وقت طويل على وفاة خماروية ، حتى تُوفيت قطر الندى حزنًا على أبيها وهي في عمر الزهر والشباب ، فَدُفنت في الرصافة ، ووقف زوجها المعتضد يبكيها بكاءً مرًّا ، وقد أثَّر وفاتها في نفسه أثرًا شديدًا حتى لحق بها بعد عدة سنوات.
وهكذا أصبح هذا العرس التاريخي الهائل ، مصدر مأساة تاريخية كبرى أدّت إلى زوال حكم الطولونيين نهائيًا في مصر.