نساء خالدات
د. أيمن دراوشة
سلمى الكنانية
المرأة العربية السبية الوفية الأصيلة والتي تميَّزت ببلاغة القول ، وحدة الذكاء
كان من عادة العرب إذا خرجوا للغزو ، أن يجعلوا نساءهم خلف صفوف المقاتلين ، وذلك تثبيتًا للعزائم ، وبث روح النخوة والشجاعة في النفوس ، وحين تدور دائرة الحرب على أحد الطرفين ، يكون هَمَّ الجانب المنتصر ، الظفر بنساء الجانب المهزوم أو المقهور ، وسوقهن سبايا إلى بيته ، ويحتكم فيهن كما يحتكم في ماله ، لا لحاجة ، بل لقطع آخر عرق ينبت في قلب عدوه ، وإبقائه ذليلًا مدى الحياة.
ورغم أنَّ العرب ، كانوا يعترفون بمنزلة سباياهم بين قومهن ، فيخالطوهن ويتزوجون منهن ، إلا أنَّ نساء العرب كُنَّ يَكْرَهْنَ السبي ، ويبذلنَ قصارى جهدهن للخلاص من هذا الأسر ، حتى لو كان الطريق هو طريق الموت والهلاك ؛ ولهذا قيل في الأمثال العربية ” المنية ولا الدنية”
وعلى الرغم أنَّ بعض السبايا قد حُظين بأزواجٍ من السادة أو البارزين ، وأنجبنَ البنين والبنات ، إلا أنَّ السبية تظل رغم ذلك ، ومهما طال الزمن ، تتوقُ لتلك اللحظة التي تتحرر فيها ، وتعود إلى أهلها.
وتُعدُّ سلمى الكنانية من أبرز الأمثلة على السبايا الحرائر ، فقد سباها زعيم الصعاليك البارزين الشاعر عروة بن الورد ، الذي عُرف بالبطولة والشجاعة والكرم…
وكان عروة قد أصاب سلمى في غزوة على بني كنانة ، فأحبها وأعتقها وتزوجها ، ونزلت بين قومه نزولًا كريمًا ، فأقامت عنده بضع سنوات ، وأنجبت منه الأولاد ، ورغم ذلك ظَلَّ حنينها إلى أهلها مستمرًا ، وظلت تنتهز الفرصة كي تتخلص من لوثة السبي.
وكانت سلمى تقول لزوجها عروة : لو حَجَجْت بي فأمرُّ على أهلي وأراهم؟
ولم يكن عروة يشك للحظة ، أنها تحبه وترغب به أكثر من أي إنسان آخر ، فحجَّ بها إلى مكة ثم أتى إلى المدينة ، ونزل في بني النضير لصداقته وصلته معهم ، فأرسلت سلمى إلى أهلها تقول :
” إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام ، فتعالوا إليه ، وأخبروه ، أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب سبية ، وافتدوني منه فإنه لا يرى إني أفارقه ولا أختار منه أحدًا.”
وما هي إلا أيام حتى قَدِمَ بنو كنانة إلى عروة بن الورد ، فسقوه الشراب حتى ثمل ، فقالوا له :
هلا فديتنا سلمى المعروفة الحسب والنسب ، فكونها سبية فهذا عار علينا ، فإن فديتنا إياها لم نصدك عن استرداها متى شئت.
فقال لهم عروة: لكم ذلك ، لكن بشرط أنْ تخيِّروها ، فإنْ اختارتني انطلقت بها إلى أولادها ، وإنْ اختارتكم فاذهبوا بها ، فقالوا له : لك ذلك.
وفي اليوم التالي جاءوا إليه ، فامتنع من فديتها ، فقالوا له : لقد وعدتنا يا عروة ! هنا لم يجد له مهربًا ، فجيء بسلمى وخيَّروها ، فاختارت أهلها.
ثمّ اتجهت إلى عروة وقالت له:
يا عروة : والله لم أجد أحدًا من العرب أغض طرفًا منك ، ولا أقل فحشًا ، ولا صائن لزوجته منك ، لكن لقد كرهت وسئمت العيش سبية بين قومك لدرجة أنني تمنيت الموت ، ولم أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول : قالت سبية عروة كذا وكذا … فارجع إلى أولادك وأحسِن تربيتهم.
فانصرف عروة حزينًا كئيبًا وأنشد:
أرقت وصُحبتي بمضيقِ عُمْقٍ لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى وأين ديار سلمــــــى إذا حلّتْ مُجـــــــاورة َ السرير
وحين طلقها قالت : أما والله إنك للضحوك مقبلًا ، السكوت مدبرًا ، خفيف على ظهر الفرس ، ثقيل على متن العدو ، رفيع العماد ، كثير الرماد …
وقد يبدو غريبًا ما فعلته سلمى بزوجها عروة بن الورد العبسي رغم العشرة الطويلة بينهما ، وإنجابها لعددٍ من الأولاد ، ولكن هذا الموقف لم يكن غريبًا عند العرب ، بل الغريب ألا تفعله وهي قادرة عليه.
وتتجلى أصالة سلمى حين تزوجها رجل بعد عروة ، وطلب منها أن تثني عليه كما أثنت على عروة ، فرفضت وطلبت منه ألا يحرجها لأنها لا تنطق إلا بالحق ، وكان زوجها لئيمًا بخيلًا ، وحين ألح عليها بالقول ، قالت بكل جرأة:
“إنَّ شَمْلَتَكَ لَالْتِفَافٌ ، وإنَّ شُرْبَكَ لِاشْتِفَاف ، وإنَّ ضَجْعَتَكَ لَانْجِعَافٌ ، وَإِنّك لَتَشْبَعُ لَيْلَةً تُضَافُ ، وَتَنَامُ لَيْلَةً تَخَافُ.”