من منظور وطني

من منظور وطني
بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي
اجتاحت في الآونة الأخيرة الشارع المصري بصفة عامة موجة عارمة من الكآبة .. وألقت بظلالها الثقيلة على الكافة .. بلا استثناء أو تفرقة … فصاحبت نبرات الصوت ، وامتزجت بالآهات .. وارتسمت أثارها السلبية على قسمات الوجوه في البيوت ، وفي الشوارع ، وفي أماكن العمل ، وفي وسائل المواصلات … والحقيقة ما كانت الكآبة لتصيب المصريين بهذه الطريقة خاصة وهم أهل طُرفة …. لولا وقع الأسعار الملتهبة التي فاقت قدراتهم ، وأربكت حساباتهم … وما كانت الهموم لتتسلل إلي قلوبهم الطيبة وهم أصحاب نُكتة ، لولا الضرائب المرتفعة التي قصمت ظهورهم ، وأقلقت مضاجعهم ، ونغصت عليهم حياتهم … الأمر الذي جعل المهتم بالشأن العام ، المراقب لما آلت إليه الأحوال … يكتشف ببساطة شديدة أن كلمة فقير لم تعد كما كانت من قبل قاصرة على أبناء الطبقة الكادحة … التي تقبع تحت خط الفقر منذ فترة زمنية طويلة ……. والتي تمثل –كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء سنة 2020 م– حوالي 30% من أبناء الشعب المصري … بواقع ما يقرب من 40 مليون نسمة والتي لا يتعدى دخل الفرد من أبنائها 1.90 دولار … فقط واحد دولار وتسعون سنتا أي ما يعادل حوالي 30 جنيه مصري في اليوم، حسب المقاييس العالمية لأسعار السلع والخدمات في حدودها الدنيا التي أعتمدها البنك الدولي سنة 2015 م .
لذلك أقول لم يعد مصطلح الطبقة الفقيرة يُطلق على من هم دون خط الفقر فحسب … بعدما انضم إليها في الفترة الأخيرة غالبية أبناء الطبقة المتوسطة التي فقدت توازنها … وانهارت قواها ، وتحطمت أحلامها .. بين مطرقة الغلاء ، وسندان الجباية .. وأصبح توفير المتطلبات الأساسية لأبنائها في هذه الأيام الصعبة يحتاج إلى ما يشبه المعجزة ….. وبناءً عليه تلاشت الطبقة المتوسطة …… التي تُعتبر رمانة الميزان للمجتمع المصري بوعيها الوطني المرتبط بالتبعية بوضعها الاقتصادي ومركزها الاجتماعي كما تُعتبر الطبقة المتوسطة صمام الأمان للبنيان الطبقي بما تتمتع به من قواسم مشتركة عديدة تربطها بالطبقتين الغنية ، والفقيرة … فالطبقة المتوسطة بمزارعيها وتجارها وموظفيها ونخبتها ، تمثل عمود الخيمة التي يستظل بها الكافة دون تفرقة ….. كما تُعد هذه الطبقة المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي ، والعامل الرئيسي للاستقرار الأمني والسياسي …… ونتيجة لتدهور هذه الطبقة خلال الفترة الأخيرة وبالمخالفة لنواميس الحياة المعروفة يُمكنك أن تُلاحظ بمنتهى السهولة أن المجتمع المصري انشطر مجدداً إلى شريحتين لا ثالث لهما …… أولهما شريحة الفقراء التي أصبحت للأسف الشديد تمثل حوالي 95 % من أبناء هذا الشعب الطيب الأصيل .
أما الشريحة الثانية وما أدراك ما الشريحة الثانية فتمثل حوالي 5 % وهي شريحة الأغنياء الذين يملكون الطائرات الخاصة … والسيارات الفارهة … والشركات العملاقة … والقصور الفخمة … والمنتجعات الفاخرة …. والذين أثرى بعضهم ثراءً فاحشاً بلا أسباب مشروعة .. في عهد الرئيس الأسبق المخلوع .. وكانوا ملء السمع والبصر .. على مدار العقود الثلاثة الماضية …. حيث جمعوا بين الجاه والسلطة والنفوذ والثروة …… وكانوا يتمتعون بحصانة خاصة ، ويتقدمون الصفوف الأولى ، ويتصدرون المشاهد كافة .. وكيف لا يكونوا كذلك ؟ .. وقد أحاطتهم الثروة بهالة أقرب ما تكون إلى القداسة .. وظلوا في نظر معظم المصريين يحتلون مكانة كبيرة … إلى أن فُوجئنا بحقيقتهم المخجلة …. في ظل دولة القانون والشفافية والمساءلة … واكتشفنا أنهم مجرد حفنة من الخونة واللصوص والسفلة بعدما سقط بعضهم في قبضة العدالة …. والبقية قادمة في الطريق لا محالة …. وصدمنا جميعاً حينما شاهدناهم مكبلين بالقيود والأغلال ، متهمين بجرائم تقشعر لها الأبدان ، ويشيب لها الولدان ، ويخجل من هولها الشيطان …. وهكذا شاءت الأقدار أن يرى هذا الشعب المنهوب من سرقوا قوته وجاروا على حقوقه يتساقطون كل يوم كالذباب … في الحرب على الفساد .. التي تخوضها هيئة الرقابة الإدارية ، وبقودها الرئيس عبدالفتاح السيسي بنفسه .
واستكمالا لما تقدم من المهم أن نعلم ….. أن غلاء الأسعار ، وارتفاع الضرائب على السلع الغذائية ، والخدمات الضرورية أثبط الهمم ، وأفسد الزمم ، وقتل الحافز على العمل، ودفع بعض الناس للانحراف دفعا … الأمر الذي أدي فعلاً …. إلى انتشار بعض الظواهر السلبية كالتسول ، والطلاق ، والانتحار ، والبطالة …. كما أدى إلى ارتفاع معدلات الجريمة كالغش والسرقة والنصب والرشوة والقتل والبلطجة … ومع ذلك نجد هذه الحكومة ماضية في رفع الأسعار وابتكار ضرائب جديدة لجمع الأموال من جيوب المواطنين ضاربة بعرض الحائط ما سبق ذكره من محاذير وحقائق .. حيث كانت أحدث محاولاتها قيام وزير المالية منذ عدة أسابيع بتقديم اقتراح بقانون لمجلس النواب …. لفرض ضرائب جديدة ورسوم إضافية على بعض السلع الغذائية والخدمات الضرورية … لكن النائب هاني خضير ، وغيره من النواب الشرفاء … المدافعين عن حقوق الفقراء بالمفاهيم السابقة …… والمتابعين لهمومهم الحياتية والمهتمين بأحوالهم المعيشية، كانوا له بالرصاد ونجحوا بشجاعة واقتدار في رفض قانون الضرائب الجديد ، وعاد الوزير أدراجه من حيث أتى خالي الوفاض .
لكن –السؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة– ألم يكن من باب أولى أن يضطلع رئيس مجلس النواب بصفته نائباً عن هذا الشعب الفقير بدوره الوطني ، ويؤدي واجبه النيابي وذلك بأن ينزل من على منصة الرئاسة إلى حيث القاعة .. كي يرفع صوته، ويبدي رأيه في الاقتراح بقانون الضرائب الجديد المقدم من وزير المالية قبل عرضه على النواب ؟ … كما فعل من قبل رئيس مجلس الشعب الأسبق …. القامة الوطنية الكبيرة ، والقيمة العلمية الرفيعة رجل القانون ، والاقتصاد ، والسياسة الدكتور رفعت المحجوب …. الذي عاش حياته كلها أستاذاً للاقتصاد والعلوم السياسية ، ثم وزيراً برئاسة الجمهورية .. ثم نائباً لرئيس مجلس الوزراء ثم أمينا للاتحاد الاشتراكي … ثم رئيساً لمجلس الشعب …. مدافعاً عن حقوق الفقراء –وهو ليس منهم– مؤمناً بمبادئ العدالة … حارساً للأملاك العامة …. ورافضاً لسياسة الخصخصة أو بمعنى أدق …. رافضاً لجريمة النهب المنظم للقطاع العام المملوك للشعب …. والذي بناه الرئيس الراحل ناصر الحق والعدالة بسواعد وعقول أبناء الغلابة .
ورغم أن الدكتور رفعت المحجوب لم يكن منتخبا من قبل أبناء الشعب ….. بل جاء بالتعيين طبقاً لنص دستور 1973 م ضمن الأعضاء العشرة الذين اختارهم الرئيس المخلوع إلا أنه لم يجامل أحداً على حساب مبادئه وأخلاقياته .. ولم يتنكر لفكره ورأيه وقناعاته ، ولم يتبرأ من إيمانه برسالته ونظرياته ….. فأعلى مصلحة الوطن ، ووضعها في المقام الأول .. حيث نزل من على منصة الرئاسة …. واخذ بزمام الكلمة …. وأعلن رفضه القاطع لنهب مقدرات الأمة في صورة قانون الخصخصة .. الذي قدمه فؤاد سلطان وزير السياحة سنة 1988 م فباءت محاولته بالفشل الزريع ، ورده الدكتور المحجوب .. على أعقابه خاسراً وهو حسير وقال المحجوب حينئذ مقولته الشهيرة التي خلدها له التاريخ “إذا سمحنا اليوم ببيع الفنادق والمنتجعات غداً سنسمح ببيع المدارس والمستشفيات والمصانع والشركات” …… وهذا ما حدث فعلاً ، وكأنه كان يقرأ المستقبل !! ….. فقد كانت مقولته تحمل بين طياتها نبوءة وهذا ليس غريباً على الرجل فقد كان لديه بُعد نظر .. وصاحب رؤية ثاقبة .. ووطنياً من الطراز الأول …. وهذا معناه أن الدكتور رفعت المحجوب أدرك بحسه الوطني أن هناك أمراً يدبر بليل وأن هناك توجهاً حكومياً لنهب القطاع العام المملوك لهذا الشعب، وأن هناك نية مبيتة على توزيعه على الحاشية ، والمحاسيب ، والعصابة الحاكمة …. ومع مرور الزمن صدق حسه ، وتحققت نبوءته ….. حيث استولى أركان النظام على القطاع العام في أكبر جريمة سرقة مقننة عرفها التاريخ في العصر الحديث، وكانت أحد الأسباب الرئيسية التي مهدت لاشتعال ثورة 25 يناير 2011 م الشعبية الخالدة .
وظل الدكتور رفعت المحجوب ثابتاً على موقفه لم يتزحزح عنه قيد أنملة حتى قيل أن هذا الموقف وغيره من المواقف الوطنية الأخرى هي التي أدت إلى اغتياله سنة 1990 م بتلك الطريقة البشعة … وهكذا رحل الدكتور رفعت المحجوب .. ولم تظهر سياسة الخصخصة (بيع القطاع العام) إلى حيز الوجود …… وتتربع على عرش السياسة المصرية إلا في سنة 1991 م … بعدما اشترط صندوق النقد الدولي على الحكومة المصرية تطبيقها للإفادة من قروض التكييف الهيكلي ، وبرامج التحرير الاقتصادي .. وهكذا انتهز أركان النظام الفاسد البائد الفرصة لتحقيق أحلامهم القديمة المتجددة في الاستيلاء على أملاك الدولة ، وبمنتهى الخسة قاموا بتطبيق سياسة الخصخصة …. فتحولت مقدرات هذا الشعب إلى فريسة سهلة نهشتها الضباع الضالة بلا أدنى رحمة أو شفقة .
لكن الغريب العجيب المثير للحيرة والجدل والدهشة ، أن مسلسل بيع القطاع العام بدأ سنة 1991 م وما زالت حلقاته المشؤومة مستمرة حتى هذه اللحظة !! …. وإذا سلمنا جدلاً بأن خسائر بعض شركات القطاع العام فضلاً عن إملاءات صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى أطماع الطغمة الحاكمة في أملاك الدولة في حقبة الثمانينيات ……. كانت مبرراً لبيع أصول القطاع العام في ذلك العهد الفاسد المستبد البائد .. إذن ما هو المبرر الآن لبيع ما تبقى منه في هذه المرحلة المعروفة بالبناء والتعمير والتطوير ؟ !! .. وما هو العائد على المواطنين من بيع شركات القطاع العام التي تحقق أرباحاً عالية كما نُشر في الوسائل الإعلامية ؟ !! وما هي الحكمة من بيع هذه الشركات التي تعد من ضمن نقاط القوة في اقتصاد الدولة كما صرحت بذلك هذه الحكومة على لسان أكثر من مسئول ؟ !! .
ومن هنا يتبين لنا بمنتهى الوضوح .. أن السياسة العامة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة على مدى الثلاثة عقود العجاف السابقة .. أكدت على أن الفقراء مجني عليهم وليسوا جناه وهذه حقيقة لا ريب فيها .. فكما نعلم جميعاً مسئولين ومواطنين أن الفقراء في حقيقة الأمر وواقع الحال هم فعلاً ضحية لسياسات العهد الفاسد المستبد البائد .. وذلك لعدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر …. عدم الاستغلال الأمثل للموارد العامة ، وبيع القطاع العام للعصابة الحاكمة … وتفشي الفساد في مفاصل الدولة …. واللجوء للحلول الوقتية للمشاكل المزمنة والانشغال بملف التوريث على حساب مبدأ تداول السلطة، وعودة الإقطاع المالي والوظيفي مرة أخرى ، والتوزيع الظالم للنفوذ والثروة، والتراخي في القضاء على ظاهرة البلطجة ، وتدهور المرافق العامة ، وتهالك البنية التحتية ، وانتشار المناطق العشوائية ، والعجز الكامل في مواجهة مشكلة الأمية ، والفشل الذريع في سياسة تنظيم الأسرة .. وما ترتب عليه من فساد وظلم وإهمال وتهميش ….. مما أدى بدوره إلى انفجار سكاني خطير كان سبباً رئيسياً في انتشار الفقر ونتيجة مباشرة له في ذات الوقت .
وخلاصة القول .. وانطلاقاً من الانحياز الكامل للطبقة الفقيرة ضد غلاء المعيشة، وإيماناً بالإنجازات الكبرى التي نشاهدها بأم أعيننا في ظل الجمهورية الجديدة … وارتكازاً على التأييد المطلق لهذه القيادة التي تقودنا إلى الصدارة ، والمجد ، والحضارة … أقول بمنتهى الوضوح والصراحة من منظور وطني لا منفعة من ورائه ، ولا مصلحة .. لابد من إعادة النظر في بيع ما تبقى من مصانع وشركات القطاع العام خصوصا المربحة منها .. ولابد أيضا من إعادة النظر في السياسة الضريبية المفروضة على السلع الأساسية، والخدمات الضرورية اللازمة لبقاء الفقراء على قيد الحياة ….. فقد آن الأوان أن يولي وزير المالية وجهه ولو مرة واحدة في تاريخ حياته .. صوب الطبقة الغنية التي تمثل حوالي 5 % من تعداد الأمة المصرية .. وتستحوذ على حوالي 90 % من الثروة الوطنية .. وذلك بتطبيق الضريبة التصاعدية على دخل الأفراد والمصانع والشركات …. فلن تستقيم الحياة .. ولن تتحقق قيم العدالة .. ولن نعرف معنى المساواة ….. ما لم تُطبق الضريبة التصاعدية على دخل أصحاب الطائرات والقصور والمنتجعات .

شاهد أيضاً

دعامات القيادة بقلم محمد تقي الدين

دعامات القيادة بقلم محمد تقي الدين القيادة درب العظماء يسعى إليها كل عظيم لكن هيهات …