أخبار عاجلة

“بين القوي والضعف : مفاهيم متناقضة في عالم متغير “؟!!

كتب حمدى الكاتب

فى عالمٍ يتسع للنور والظلام، نجد أنفسنا أمام ثنائيات حادة تبدو أحيانًا كتناقضات، لكنها في حقيقتها وجها العملة الواحدة. الذكاء والغباء، الإيمان والكفر، الرحمة والقسوة، كلها مفاهيم لا تستقيم فى معناها إلا بوجود نقيضها. فالذكاء لا يُعرف إلا على خلفية الغباء، كما أن الإيمان لا يُدرك إلا حين اختُبر بالكفر.

لقد رأيت أذكياءً بلا بصيرة، وعلماء غابت عنهم الحكمة، وأميين يحملون من الفطرة السليمة ما يجعلهم أكثر رشدًا من أصحاب الشهادات. وهنا يبرز سؤال جوهرى: ما هو معيار القيمة فى الإنسان؟ أهو ذكاؤه؟ أم وعيه؟ أم اتجاه قلبه؟.

علم النفس العصبى يُفرّق بين الذكاء الإدراكى والذكاء العاطفى.

فقد يمتلك الفرد معدلًا عاليًا من الذكاء العقلى (IQ)، لكنه يفتقر إلى القدرة على التعاطف، وعلى قراءة مشاعر الآخرين أو فهم ذاته. الذكاء هنا يصبح أداة باردة، قادرة على الإنجاز لكنها قد تفتقر إلى الاتجاه الإنسانى.

ومن منظور علم الوراثة والسلوك، فإن الإنسان يولد بطاقة معينة، ولكن هذه الطاقة لا تُحدد مصيره. الجينات قد تمنح القابلية، لكنها لا تفرض النتيجة. الفارق دائمًا فى الإرادة، فى بيئة العقل وفى التربية التى تُنبت الوعى. وهذا ما يُفسر كيف يخرج من بيئة واحدة طفل ينهل من نور العقل، وآخر يختار الظلام.

والقرآن أشار إلى هذه الحقيقة العميقة فى تركيبة الإنسان:

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»

كأن الفجور والتقوى كلاهما مزروعان فينا، كاحتمال، والخيار فى أيدينا.

الذكي لا يُقاس فقط بسرعة الاستيعاب أو كثافة المعلومات، بل بقدرته على الربط بين المعطيات، والروية فى الأحكام، ورؤيةً ما وراء الظاهر. الذكاء الحقيقى مرن، ناقد، متواضع أمام المجهول.

أما الغباء، فهو أحيانًا شكل من الجمود العقلي، لا يعني بالضرورة قلة في القدرات، بل قد يكون كسلاً في طرح الأسئلة، أو يقينًا زائفًا يغلق أبواب الإدراك. الغبي قد يكون مثقفًا، لكنه لا يجيد الإنصات للواقع حين يتغير، ولا يُراجع أفكاره حين تصطدم بالتناقض.

والذكاء ليس واحدًا. هناك من يملك ذكاءً لغويًا، وآخر رياضيًا، وثالثًا اجتماعيًا أو عاطفيًا… لكن الأهم من ذلك كله هو ذكاء الوعي بذاتك وبحدودك. فكم من أذكياءً أخطأوا، فقط لأنهم لم يعرفوا حدود عقلهم ولا استمعوا لصوت تجربتهم.

فى لحظة من التأمل، قد ترى الكافر الباحث أصدق نية من المؤمن المقلد، وقد ترى الغبي يفتح قلبه لما يغلقه الذكي المتغطرس. وليس في هذا تبسيط ولا تبرير، بل دعوة لفهم أعمق للطبيعة البشرية، حيث تتداخل الأضداد وتتكامل.

الله لم يخلق الإنسان ملاكًا ولا شيطانًا، بل خلقه حرًا، قابلًا للنقيضين، محمولًا على جناحى العقل والقلب، بين نور المعرفة وظلمة الجهل، بين الهداية والضلال، فى رحلة لا تتوقف إلا عند لحظة الإدراك كاملًا.

ولعل أعظم ما فى الإنسان، ليس أن يكون ذكيًا أو مؤمنًا، بل أن يسعى… أن يعى أنه فى امتحان مستمر، وأنه ما دام يسأل ويبحث ويتأمل، فهو على الطريق، حتى وإن تعثر.

منذ أن بدأ الإنسان يفتح عينيه على العالم، شكل النور والظلام أعمق ثنائيات الإدراك فى وجدانه. فمن خلالهما فرق بين النهار والليل، بين الأمان والخوف، بين المعرفة والجهل، بل بين الحياة والموت.

لكن… هل النور والظلام ثنائية حقيقية فى الوجود؟ أم أنهما مجرد إسقاطات لعقولنا، ترتبط بما جبلنا عليه من حواس وإدراك؟

النور، من الناحية الفيزيائية، هو طيف من الموجات الكهرومغناطيسية، جزء ضئيل منها فقط تلتقطه أعيننا، نُسميه «الضوء المرئي».

أما الظلام، فليس «شيئًا» فى ذاته، بل غياب هذا الطيف عن مجال رؤيتنا. هو لا يُصدر موجات، لا يُقاس كمادة، إنه فراغ بصري، صمت الضوء.

لكن لو تأملنا أعمق… لوجدنا أن هذه الثنائية قد تكون خدعة إدراكية. فالعين لا ترى النور، بل ترى أثره حين يسقط على الأشياء. والظلام ليس كينونة قائمة، بل نتيجة حدودٍ فى جهازنا البصري. من دون عين ترى، لا فرق بين نور وظلام. كلاهما يصبح لا شيء في غياب الوعي.

ومثلما لا وجود للظل دون النور، لا يمكن للإنسان أن يعي الظلام إلا لأنه يعرف النور، ولا يشعر بالنور إلا على خلفية من ظلام. فهما وجهان لحقيقة واحدة: إدراكنا نحن. إدراك يتشكل من تفاعل الضوء مع العين، والمعلومة مع العقل، والإحساس مع التجربة.

بعيدًا عن الفيزياء، النور والظلام تحولا إلى رمزين ثقافيين وروحيين. النور يُقرن بالمعرفة، بالهداية، بالحق. والظلام يُرمز به إلى الجهل، والتيه، والخطيئة. لكن أليس في هذا إسقاط بشري على ما قد لا يكون سوى حالة طيفية للواقع؟

ربما في مستويات أعمق من الوعي، وفي بعد لم نصل إليه بعد، لا يوجد «نور» و«ظلام»، بل حضور مختلف لكثافة الطاقة أو الوعي. كما في ميكانيكا الكم، حيث الجسيم والموجة ليسا إلا حالتين لذات الكينونة، ربما النور والظلام أيضًا هما تجليان لشيء واحد، يدركه الإنسان على حسب أجهزته الإدراكية.

إننا لا نرى العالم كما هو، بل كما نحن. والحد بين النور والظلام قد لا يكون في الطبيعة، بل فينا.

البصيرة، كما توحى الكلمة، ليست رؤية العين، بل رؤية أعمق وأصدق، تأتي من وعي يقظ، وفطرة حية، واتصال داخلي بالحقيقة.

هى القدرة على رؤية المعنى في الحدث، والمغزى في الابتلاء، والرسالة خلف الألم.

أما الغفلة، فهى لا تعني الجهل، بل غياب الحس الداخلي بالحضور والمعنى. الغافل ليس من لا يعرف، بل من لا ينتبه، من لا يستجيب، من يعيش كما لو كان نائمًا وهو مستيقظ.

إن أعظم النور ليس ذاك الذى ينير لك الطريق، بل ذاك الذى يجعلك تبصر نفسك.

وإن أخطر الظلمات، ليست ظلمة الليل، بل ظلمة الضمير حين ينام، والعقل حين يسلم دون وعي، والقلب حين يغترب عن معنى الحب وقيم الإنسانية.

شاهد أيضاً

زكري وفاة الفنانة الكبيرة دلال عبدالعزيز 

بقلم / هاني محمد علي عبد اللطيف  اليوم ذكرى وفاة الفنانة دلال عبد العزيز التي …