بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد إن من سنن الله تعالي الجارية في خلقه للكون والحياة هو التكامل والتوازن، ولا يمكن الوفاء بهذه السنّة إلا بتوازن يكملها، فلا يغلب جانبا منها على حساب جانب آخر، وذلك التوازن هو الوسطية التي جاء بها الإسلام، وإن هذا المصطلح الوسطية يعد من أبرز سمات وخصائص الإسلام وأهله، حتى بلغ الإهتمام به أن أخذ مكانا بارزا في فاتحة الكتاب، التي يتلوها المسلم في اليوم الواحد على الأقل سبع عشرة مرة ” إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ” إنه دعاء بإلتزام الوسطية والحذر من طرفيه.
طرف الغضب وطرف الضلال، والذي بوصف الوسطية منح أفراده مهمة الشهادة على الخلق والأمم الأخرى، حيث قال الله تعالى ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” إنه بالنظر إلى هذه الوسطية التي قصد بها الشهادة نستجلي من خلالها عدة أمور، منها إن الشهادة في الأمر العادي، تتطلب عدالة الشاهد الذي لا بد من إتصافه بالعقل والصدق والأمانة، وكونه عالما بما يشهد به، فكيف يكون الأمر حين يكون الإشهاد على كل الأمم، وإن هذه الشهادة تثير في نفس الشاهد مشاعر الإعتزاز والكرامة والمسؤولية والثقة في آن واحد، لأن فيها معنى الوصاية على الخلق، والإشراف على قيادتهم ورقابتهم، وإن هذه الشهادة وإن كانت أخروية إلا أن لها بعدا دنيويا، فهي ولا بد أن تبدأ في الدنيا، بحيث تتوافر لدى الأمة الوسط الشاهدة.
أكرم السجايا وأجلّ المزايا، إذ لا يعقل أن يتخلف الشاهد عن مستوى المشهود عليه، وإن هذه المهمة وهي مهمة الشهادة تحمل أصحابها مسؤولية إنقاذ البشرية، فهم أصحاب الوسط السوي، وهم الشهداء المكلفون بجلب الناس إلى هذا الطريق الوسط، من مهالك الإفراط والتفريط، فالإنسان لا يمكن أن يبقى محايدا في ظل إغراءات الإنحراف عن يمينه ويساره، وهو المختار، وهو الشاهد على من حوله، وإن مهمة الشهادة تضفي بعدا حضاريا لازما على الأمة الوسط أمة الإسلام، وهو الحضور الحضاري والعلمي لأن الشاهد لابد وأن يكون حاضرا عالما معاينا لما يشهد عليه، غير غائب ولا ذاهل، وإن التفريط في هذا الواجب، أو الإخلال به، أو التنازل عنه، يعني فقدان الوسطية، وحرمان الشهادة، وتضييع سمة وشعار وسم الله تعالى به هذه الأمة.
وجعله شعارا تتميز به في كل أمور حياتها، وإن الأمة الإسلامية هي أمة الوسط بكل معاني الكلمة، شرفا وإحسانا وفضلا وتوازنا، وإعتدالا وقصدا وعقيدة ومنهاجا، ولما كانت الوسطية أمر نسبي كل يدعيه وينسبه لنفسه، ويزعم أحقيته بهذا الوسم واللقب، وغيره إما غالي منحرف، وإما مفرط منحرف، أشارت الآية إلى المعيار الذي يحدد الوسطية، إنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تعالى ” ويكون الرسول عليكم شهيدا ” فهو الحكم صلى الله عليه وسلم وقد بين المعيار الدقيق في ذلك حين قال ” أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى إختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ” فإن سنة النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم
وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم هما الوسط، فكل من قرب منهما كان أقرب إلى الإعتدال والوسطية، وما زاد عليهما يعد إفراطا وغلوا وتطرفا، وكذلك من قصر عنهما يكون مفرطا ومقصرا ومتطرفا، لذا كان سلف الأمة الصالح أعرف الناس، وأحرصهم على إلتزام الوسطية لحرصهم على إلتزام سنة النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأطهار يشهد على ذلك سيرتهم وحياتهم وآثارهم العلمي
ة والدعوية.