مقال رأي بقلم محمد عبد العزيز
كاتب وباحث اقتصادي ومتخصص في الشئون الافريقية
لفظ ملحد لا يعني أن صاحب الوصف إنسانياً أكثر من غيره أو مسالماً أكثر من غيره كذلك أيضاً فإن لفظ ملحد لا يعني أن صاحب الوصف مثقف ولا يدل اللفظ على أي تميز فكري ، من الجدير بالذكر أنه انتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات على اليوتيوب والقنوات الفضائية تحتفي بلفظ ملحد وكأن الكلمة في حد ذاتها تشير إلى أن هذا الشخص بالضرورة مطلع وقاريء وصاحب رأي وله تميز ثقافي أو إنتاج فكري والحقيقة أن هذا الترويج ليس في محله ، من المعلوم أن الملحد هو صاحب عقيدة إنكار أي عقيدة وصاحب موقف من مبدأ الايمان بخالق لهذا الكون ومن يريد التخفيف من الملحدين من وطأة الأمر خاصة في المجتمعات العربية فإنه يقول بوجود خالق مهيمن متعالي لكنه ترك القوانين الطبيعية تتحكم في مجريات الأمور في هذا العالم المادي لأن الخالق أسمى من هذا العالم المادي ولا يتدخل فيه بشكل مباشر وهو ما يسمى بالالحاد الربوبي أي إيمان بالألوهية مع إنكار الربوبية وهو أمر ملتبس بالنسبة للأديان السماوية التي تؤمن بطلاقة القدرة الإلهية ومفارقة منطقية يقع فيها الملحد لفصل الألوهية عن الربوبية بحجة مادية العالم وسمو الخالق عن المادة بما يفتح المجال لادعياء هذا المنطق أن ينصبوا البشر أنفسهم بأرباب من دون الله لقيادة هذا العالم المادي فيتم استبدال الإله الحق بأرباب عدة من المخلوقات الضعفاء .
وابتداءا إذا أعطى الملحد نفسه حق النقد فيجب عليه قبول أن يوجه له النقد ولفكره وأسلوبه وأدواته في نقده وكيفية عرضه لاستنتاجاته الخاصة به فلا يجوز على الملحد أن يفرض استنتاجاته على غيره على كونها مسلمات لا تقبل النظر ثم إعادة النظر تماما كما يفعل الملحد مع أي دين من النظر وإعادة النظر .
ويسمح الملحد لنفسه بتقييم الكتب السماوية ومقارنتها ببعضها البعض وكشف التشابه بينها ووصفه لهذا التشابه على أساس أن الكتب السماوية تطورت ونقلت من بعضها البعض بينما يصف الملحد ما يسميه من وجهة نظره بالتناقض في الكتب السماوية على أساس أن الخالق بدل في كلامه وهو أمر لا يليق بالخالق بما يدعيه على كونه حجة للإلحاد على حد زعمه وهو بذلك يقع في مفارقة لانه يدعي تطور الأديان بشكل بشري مع تطور البشر وينفي تغير بعض الشرائع بتغير الزمان والمكان وفقا لتطور البشر فهل يعقل أن الخالق أقل حكمة من البشر أنفسهم الذين أدركوا بأنفسهم تطورهم عبر الزمان واختلاف مشكلاتهم من مكان لآخر خاصة في الأزمنة القديمة فضلا عن أن الملحد يسقط تماما رؤية الأديان من أن الدين واحد مع اختلاف الشرائع وصولا لزمان أصبح التواصل فيه بين البشر أكثر من أي وقت سبق وبالتالي أصبحت البشرية جميعا في حاجة لشريعة واحدة مناسبة لكل زمان ومكان كما يغفل الملحد عن عمد النقيض لطرحه حول تطور الأديان من بعضها وهو أن البشر أنفسهم غيروا وبدلوا في كل الأديان بينما جوهر الرسالة والعقيدة كان توحيدا خالصا بينما العامل البشري هو الذي تدخل وغير وحرف لذلك كان لزاما أن تكون آخر رسالة بعيدة عن التحريف والتبديل خاصة في عقيدة التوحيد وكتاب الوحي الخاص بتلك الرسالة .
وكما قلنا إذا كان الملحد أعطى لنفسه الحق في انتقاد كل الطوائف الدينية وكل المتحدثين والمفسرين بإسم أي دين أرضي أو سماوي فكما سمح لنفسه بحق النقد فيجب عليه أن يتقبل النقد بصدر رحب وألا صار متطرفا في الحاده مثل أي متدين متطرف أيا كان دين هذا المتدين المتطرف لأن أبسط تعريف للتطرف الديني هو حالة نفسية وعصبية تنتج من رغبة المحب لدينه من التوحد التام مع هذا الدين بشكل قد يدفعه لارتكاب جرائم ونشر أكاذيب وبدع ظنا منه أنه وحده الأمين والمدافع عن هذا الدين فإذا صار الملحد متوحدا ومدافعا مستميتا عن الإلحاد صار هو الآخر متطرفا في الحاده لأنه صار لا يقبل بأي رأي مخالف له .
ومن المفارقات أن معظم الملحدين جعلوا من اللادين دينا لهم من خلال التعصب فالعقيدة بدون تعصب ليست عقيدة بل مجرد فكرة ولكن التعصب لعقيدة بشكل يبيح القتل أو القبول بعقيدة تبيح اضطهاد الآخر والتنكيل به هو التطرف المذموم القبيح وبذلك يقع الملحد في مفارقة غريبة لا يستطيع تفسيرها فالبشر لا يستطيعوا الحياة بدون دين ومن يتمسك بترديد افكار أساتذته الاوائل في الإلحاد وترديد عبارات لهم في ذكراهم أو الاحتفاء بقبور الملحدين الاوائل وكتاباتهم فقد صنع طقوسا في الإلحاد وهذه مفارقة أخرى غير مفارقة جعل اللادين عقيدة ودين .
ومن الجدير بالذكر أن الطريق السهل حاليا للحصول على اللجوء إلى إحدى دول الغرب والحصول على دعم مالي شهري من تلك الدولة الغربية هو إدعاء الشذوذ أو الإلحاد وأن صاحب الإدعاء يعاني في المجتمعات العربية ذات المرجعيات الدينية المتطرفة ضد كل ما هو مخالف لقيمها ولاثبات صدق نوايا هذا الملحد أو الشاذ عند انتقاله إلى الغرب يقوم بنشر فيديوهات على الانترنت في شكل حوارات إنسانية وثقافية وحوارات حول مفهوم الدين والسياسة والدولة والجنس في المجتمعات العربية وبالتأكيد فإن السمة الغالبة هي النقد اللاذع والسخرية على الشرق وعلى ثوابت المجتمع والدين في الشرق والتأكيد على أن الوصفة السحرية للخروج من كل مشكلات المجتمعات العربية هي الإلحاد والاعتماد على العقل البشري فقط في اختيار شكل نظام حكم لا يعرف إلا عقل الإنسان وقدرات الإنسان ويعادي فكرة الدين من الأساس لأن الدين أيا كان هو أساس التعصب ومن ثم الحروب الدينية والتطرف الديني ومن يتأمل ذلك الرأي يجد أنهم يستبدلوا تطرف ديني بتطرف آخر لاديني فبدلا من معالجة الخطاب الديني والرجوع إلى التسامح والمحبة ونبذ العنف والتمسك بصحيح الدين يجب أن نستبدل العنف باسم الدين إلى عنف باسم اللادين وعنف ضد الدين وهو أمر رد ومفارقة فكرية ومنطقية لا يمكن فلسفتها الا بمنطق التقية لحين التمكين وهو منطق المتطرف أيا كان مذهبه وعقيدته وإن كانت إشكالية الملحد مع الدين هي كثرة أعمال العنف عبر التاريخ الإنساني باسم الدين فإن هذا ايضا رد لأن العنف واقع واقع فأول جريمة في التاريخ الإنساني بين أخوين لم تحدث بسبب الدين ولكن بسبب الغيرة وذلك بشهادة المتدينين أنفسهم ولقد تعلم أصحاب المصالح والاطماع صياغة مبررات دينية لتمرير حروبهم وجرائمهم فليس ذلك من صنع الدين ولكن من صنع البشر أنفسهم وإذا تمكن بعض الملحدين من السلطة فسوف يقوموا بالتنكيل بكل ما هو ديني ولكن ليس باسم الدين ولكن باسم الإنسانية والاخلاق واعلاء قيمة القانون وسوف يسقط الضحايا كما سقطوا في عصر الشيوعية التي حاربت الدين وسقطوا على يد دكتاتور طاجكستان الذي حارب الدين لسنوات طويلة هناك ، لذا يجب على الملحد مراجعة منهجه النقدي وأدواته قبل أن يظن أنه لا يخطئ وان له الحق في فرض رأيه بالفكر اليوم وبالسلاح والقانون في الغد تماما كما تطورت في الغرب فكرة الشذوذ الجنسي من معاقبة الشاذ بالقتل ثم السجن ثم الغرامة ثم أصبحت القوانين والميديا اليوم في الغرب لا تقف موقف القبول فقط بل تشجع على الشذوذ الجنسي فهذه المراحل تؤكد أن من تعرضوا للتنكيل بالأمس أصبحوا يفرضوا وجهة نظرهم اليوم بعد التمكين وسوف أكون أكثر إنسانية وانصافا من أي مدعي للإنسانية من الملحدين وأقول بأن البطش بعد التمكين سمة بشرية لا علاقة لها لا بالدين ولا الإلحاد وإنما رغبة في إقصاء الآخر المخالف حتى يستتب الأمر للحاكم الجديد وفكره واتجاهاته ورؤيته .
واذا كانت واحة العقل البشري هي جنة الفردوس لدى الملحد فهو واهم لأن الدين أقر بمحدودية علم وقدرات عقول البشر في هذه الحياة الدنيا ولم يدعي الدين إمكانية الإجابة على كل التساؤلات في هذه الحياة الدنيا وإذا كان الملحد يرى أن الحريات المطلقة يمكن تقييدها بالقوانين الوضعية والأخلاق فقط دون فطرة سليمة ودين فان الغرب لم ينتهي ولن ينتهي من المراجعات الفكرية مثال ذلك الاختلاف حول مفهوم الإجهاض ومن يحق لها من النساء الإجهاض وكيف ومتى ومثال آخر وهو التحول الجنسي وهل هو تحول كامل أم ظاهري فقط وهل يحق لهؤلاء المتحولين جنسيا استخدام مراحيض النساء أم الرجال أم مراحيض خاصة لهم وحدهم وكيف يمكن أن يتعامل هؤلاء المتحولين مع الأطفال الذين لم يعرفوا شيئا بعد عن الجنس ، لذلك فإن الاحتكام للعقل والقانون والجوانب الإنسانية كما يدعي أي ملحد لن يعطي توافقا واجماعا ولن ينهي حالة الجدل المجتمعي فلما كل هذا العنف اللفظي ضد الدين في حوارات ولقاءات الملحدين التي تأخذ عناوين فلسفية وإنسانية جذابة ثم يكون المحتوى ساخطا ومتحيزا ضد الدين لأقصى درجة ، لذا يجب أن يراجع الملحدين أنفسهم لأن سخريتهم من المتدينين على أساس أن الدين ليس سبيلا مقبولا إلى العقل والإنسانية يمكن أن تقابل هذه السخرية بمنتهى السهولة بانتقاد من المتدينين مفاده بأن أيضا الإلحاد ليس هو السبيل إلى العقل والإنسانية وأن الدين ذاته يصف الإنسان بأنه أكثر الأشياء جدلا وأنه يصعب التوافق دائما بين جميع البشر .