معاونة الباص
25.2.2022
أحيانا كانت سميرة تساعد والدها بجمع الأجور من الركاب، عندما يتغيب معاون حافلة ابيها…
ذلك اليوم، استغربت وجود الدكتور استاذها في كلية الأدب الفرنسي راكباً في باص والدها، هي تعرف بأن استاذها يملك سيارة فاخرة. كذلك الأستاذ استغرب كيف سميرة تعمل جابية…
أخذت تفكر ما الذي ستقوله حتى تبرر غيابها عن محاضرات ذاك الأستاذ، لأنه حريص على تواجد جميع طلابه في محاضراته….
فاجأها الأستاذ وقال: أهلا سميرة كم أنا فخور بك طالبة عاملة حضارية بالفعل.
تلعثمت ولاذت بالصمت، فسألها حتى يزيل خجلها:
كم هي أجرة الركوب؟
قالت: لا نأخذ من مدرسي الجامعات أجور نقل.
قال: أنا الآن لست أستاذا جامعيا، أنا الآن مواطنا عاديا، راكبا حافلة عامة، ويجب أن أدفع ما يتوجب علي.
قالت: هذا محال، أن تدفع بدل ركوب في حافلة والدي…
سألها عن دراستها وكيف تحصل على المحاضرات عندما تتغيب عن الجامعة؟
قالت: عادة أستعير دفاتر زملائي وأنسخ ما سجلوه، أحيانا أفهم كتاباتهم، وأحيانا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله..
سألها عن الكتب الخارجية التي تقرأها..
قالت موضوعي المفضل هو السلام مع الذات، ثم مع العالم.
في يوم لاحق كتب الأستاذ على السبورة باللغة الفرنسية جملة:
ماذا يعني لكم السلام وكيف تعيشونه؟
أخذ الأستاذ يتنقل بين الطلبة، عندما وصل إلى سميرة أعطاها كتابين واحد عنوانه السلام مع الذات … والثاني جميع محاضرات السنة الدراسية…
احمرت سميرة خجلاً، وقالت شكرا جزيلاً، هذا أكبر بكثير من بدل الركوب بالحافلة…
ضحك الأستاذ وحاول أن يخفي ضحكته أمام التلاميذ…
فتحت الكتاب الأول فوجدت على صفحته الأولى بخط استاذها وتوقيعه. إهداء إلى معاونة الباص… فتحت النوتة كتب عليها حتى لا تستعيرين دفاتر زملائك…
نظرت إلى استاذها وابتسمت بفرح، وتشابكت العيون، وفي تلك اللحظة، رجف قلبها واحست بان سهام الحب طرقت بابها…
ومذ ذاك، قررت قبول التحدي وأن تحصل على النجاح الكامل. ربما نجاحها يمكنها الحصول على قلب استاذها، فلا بد لها من أن تكون متفوقة، قادرة، ناجحة، حتى تجعله فخورا بها…
وبالفعل جاهدت، وسهرت، وتعبت، وأخيرا حصدت ثمار تعبها علامات شبه كاملة وتخرجت بامتياز…
في ذلك الصيف، ذهبت سميرة في رحلة مع أهلها إلى البحر.
فجأة سمعت صوتا يناديها يا معاونة الباص…
استغربت سميرة، لا أحد يناديها بهذا الاسم غير استاذها الجامعي…
أصر على دعوتها هي وأهلها إلى منزلهم الصيفي لتناول وجبة غذاء في المنزل…
منزل الاستاذ هو قصر من القصور الفخمة المحاط بالأشجار والورود الجميلة…
أحست سميرة بتلك اللحظة بأن أحلامها قد تحطمت…أين مكان معاونة الباص الفقيرة من هذا الثراء، وتمتمت بصمتها: هذا الاستاذ ما شاء الله من عالم آخر…
الأم لاحظت اهتمام ابنها غير العادي بضيفته، وهي تعرف بأن ابنها لم يهتم بأي صبية قبل الآن، وكم تمنت أن يجد شريكة العمر، فأخذت تراقب سميرة اعجبت بجمالها العذري وبلطفها، ونعومة حركاتها، وعفويتها…
سميرة كانت تحادث ذاتها وتقول يا مجنونة، يا معاونة الباص، عليك أن تقلعي جذور هذه العاطفة المستحيلة من قلبك، كفاك تخيلات وأوهام مسلسلات… عليك أن تحرقي هذا الحب الذي يملأ كيانك…كيف تحبين رجلاً من عالم آخر…
في دمشق، شاهد الاستاذ سميرة راكعة امام تمثال العذراء تصلي بحرارة وعيناها غارقتان بالدموع…
ربت على كتفها، وسألها ما بك يا سميرة؟
قالت: امي الآن في غرفة العمليات يجرون لها عملية اجتثاث المرارة…وانهارت دموعها باكية…
قال الأستاذ المؤمنون يتقبلون أحكام السماء بسلام. وكل ما تأتي به السماء هو خير لنا. السلام الذي يأتينا من فوق هو نعيم لحياتنا…
في اليوم التالي، تفاجأت سميرة بدخول الدكتور إلى غرفة أمها في المشفى حاملا الورود…
قال الأستاذ: يطلبون في الكلية أستاذا مساعدا من المتفوقين، وأنت تستحقين…
قالت سميرة بذاتها ألا يكفيني حلم الحب المستحيل، حتى يجلب لي هذا الأستاذ حلم ثاني أكبر مني…
بعد شهر تقريباً رن جرس الهاتف في بيت سميرة…
قال الدكتور: متى نستطيع أن نزوركم أنا وامي لقد اشتقنا لكم…
سقطت السماعة من يد سميرة من فرحتها.
قال الدكتور: بداية أود أن أبارك إلى سميرة بتعيينها أستاذة مساعدة في كلية الأدب الفرنسي.
قالت أم الأستاذ: أنا ايضاً أتمنى ان تقبلوا بان تكون سميرة شريكة حياة ابني، وملكة منزله، أنا احببت معاونة الباص هذه… انني أرى السلام القدسي يعيش في قلبها..
تزوجاوانجبا، سميرة تابعت دراسة الدكتوراه، وصارت أستاذة زميلة مكافئة لزوجها في الوظيفة.
الجميل، الدكتور عندما يغازل زوجته يناديها يا معاونة الباص…
كتب القصة: عبده داود
