كتب القصة: عبده داود – تشرين اول 2021
معاونة الباص – قصة قصيرة
أحيانا سميرة تساعد والدها بجمع الأجور من الركاب عندما يتغيب المعاون الذي يساعده.
سميرة كانت آنذاك طالبة جامعية في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية.
ذلك اليوم، استغربت وجود الدكتور استاذها في الجامعة راكباً في باص والدها، لأنها تعرف بأن استاذها يملك سيارة فاخرة. كذلك الأستاذ استغرب كيف سميرة تعمل جابية على متن باص عمومي في دمشق، وهذا عمل، عادة يحتكره الشباب…
أخذت تفكر ما الذي ستقوله حتى تبرر غيابها ذاك اليوم. عن الجامعة، وخاصة عن محاضرته هو بالذات لأنه حريص بالتفقد على تواجد جميع طلابه في محاضراته.
الأستاذ فاجأها وقال: أهلا سميرة كم أنا فخور بالفتاة العاملة…
تلعثمت ولم تعرف ما الذي تقوله.
فسألها حتى يزيل خجلها: كم هي أجرة الركوب؟
قالت: نحن لا نأخذ من مدرسي الجامعات أجور نقل
قال: أنا الآن لست أستاذ جامعة، أنا الآن مواطن عادي، راكب حافلة عامة، ويجب أن أدفع ما يتوجب علي.
قالت: هذا محال، أن تدفع بدل ركوب في حافلة والدي.
في يوم لاحق، كانت سميرة واقفة عند موقف الباص
تفاجأت بسيارة الدكتور استاذها في الجامعة تقف بجانب الرصيف، فتح الدكتور نافذة السيارة، ودعا سميرة للركوب معه.
سميرة في الحقيقة، لم تركب سيارة خاصة مع أي أحد سابقاً، اقتربت واعتذرت قائلة: لا، شكراً أستاذ لن أعذبك أنا متعودة ركوب الباصات العامة.
سألها الأستاذ: ألست ذاهبة إلى الجامعة؟
أركبي أنا مدين لك بتوصيلة سأسددها لك.
ركبت سميرة بجانب الأستاذ وتكاد تذوب من الخجل، ماذا سيقول عنها الناس إذا رأوها راكبة مع إنسان غريب، وكيف يعرفون بأن هذا الشخص هو استاذها، وسيراني زملائي وزميلاتي ما الذي سيقولونه عني… ألف تساؤل وتساؤل مروا بذهنها، وهي صامتة مكفهرة…
لاحظ الاستاذ ارتباك طالبته، فسألها عن دراستها وكيف تحصل على المحاضرات عندما تتغيب عن الجامعة؟
قالت: عادة أستعير دفاتر زملائي وأنسخ ما سجلوه
أحيانا أفهم كتاباتهم، وأحيانا استعين بالله.
قال الأستاذ: وهل الله يعينك عندما تقصرين بواجبك؟
اجابت سميرة عندما يغيب معاون أبي، يجب أن أحل محله، نحن فقراء يا استاذ، عندما لا نعمل لا نأكل
ردد الأستاذ الجملة عدة مرات:(عندما لا نعمل، لا نأكل)
في يوم لاحق، دخل الأستاذ إلى مدرج الجامعة. كانت سميرة هناك.
كتب على السبورة باللغة الفرنسية جملة:
(عندما لا نعمل لا نأكل) وطلب من الطلبة أن يكتبوا حول ذاك الموضوع. وقال هذه مذاكرة.
ثم صار يتنقل بين الطلبة واعطى سميرة كتاباً (نوته جامعية) وقال لها هذه محاضرات كل السنة بدل من استعارة دفاتر زملائك…
احمرت سميرة خجلاً، وقالت شكرا جزيلاً، هذا أكبر بكثير من بدل الركوب بالحافلة العمومية…
ضحك الأستاذ وحاول أن يخفي ضحكته أمام التلاميذ
فتحت الكتاب (النوتة) وجدت على صفحته الأولى بخط استاذها وتوقيعه: (إهداء إلى معاونة الباص) وتحت الاهداء كتب (إذا لا ندرس، لا ننجح)…
نظرت إلى استاذها وتشابك نظراتهما…
من تلك اللحظة غزا الحب قلب سميرة وقررت أن تحصل على العلامة التامة في مقرر ذاك الأستاذ… حتى تثبت ذاتها وحتى تربح قلبه. لا بد لها أن تكون قوية، متفوقة، قادرة، حتى تجعله يفتخر فيها…
وبالفعل جاهدت، وسهرت، وتعبت، وأخيرا حصلت على علامات متفوقة…
في ذلك الصيف، ذهبت سميرة مع أهلها إلى صيدنايا القريبة من دمشق في مناسبة ما.
فجأة سمعت سميرة صوت يناديها يا معاونة الباص
ومن يناديها بهذا الاسم غير استاذها الجامعي…
أصر الدكتور على دعوة سميرة وأهلها إلى منزلهم الصيفي لتناول وجبة الغذاء…
منزل ليس ككل المنازل، هو قصر من القصور الفخمة المحاط بالأشجار والزهور…
القصر قصر لا نراه إلا في الكتالوجات…
عندما شاهدت سميرة ذلك الثراء، أحست بسيف حطم أحلامها واخترق قلبها… أين أنا معاونة الباص. وقالت: نحن جماعة الذين إذا ما عملنا لا نأكل، وأين هذا الدكتور الأستاذ، وهذا المستوى الرفيع…
تشكر أهل سميرة العائلة المضيفة وكم أفرح قلبهم شعورهم باهتمام الدكتور بابنتهم، ولو إن الامر لا يتعدى سوى الاعجاب المؤقت، وكيف لهم أن يحلموا بخطيب لابنتهم كهذا الشاب الذي جاءهم من عالم آخر غير عالمهم
لكن سميرة كانت سعيدة بمشاعرها الصامتة، واحلامها المستحيلة…
تخرجت سميرة في الأدب الفرنسي بتفوق، كان الحب هو دافع تفوقها الذي اعتبرته تصريح عما يدور بخلدها من حلم حياتها المستحيل…
كانت تحادث ذاتها وهي واقفة أمام المرآة، وتقول لذاتها يا مجنونة، يا معاونة الباص، عليك أن تقلعي جذور هذه العاطفة المستحيلة من قلبك ومن مخيلتك، عليك أن تحرقي هذا الحب الذي يملأ كيانك…هل تحبين رجلاً من المستحيل أن يرتبط بك…
في كنيسة بالقصاع بدمشق/ مقابل مستشفى(الفرنسي) التي يصلي فيها بالعادة، شاهد سميرة راكعة امام تمثال العذراء تصلي بحرارة وعيناها غارقتان بالدموع…
ربت على كتفها، سألها ما بك يا سميرة؟
قالت بأن امها الآن في غرفة العمليات يجرون لها عملة اجتثاث المرارة لأنها تعذبت كثيرا، وما فتئت تعاني من آلامها الكثير…
دموع سميرة وحنيتها، ومحبتها لأمها هي التي فتحت قلب الأستاذ على مصراعيه.
في اليوم التالي، تفاجأت سميرة بدخول الدكتور إلى غرفة أم سميرة في المشفى وهو حامل الورود…
قال الأستاذ، الحمد لله على سلامتك سيدتي أم سميرة.
ثم قال يطلبون في الكلية أستاذ مساعد من المتفوقين، ما رأيك بتقديم أوراقك الثبوتية، أنت تستحقين…
قالت سميرة بذاتها ألا يكفيني حلم واحد، أحلام الحب المستحيل، حتى يجلب لي هذا الأستاذ حلم ثاني أكبر مني…
بعد شهر تقريباً رن جرس الهاتف في بيت سميرة
كان الدكتور على الخط، قال: متى نستطيع أن نزوركم أنا وامي لقد اشتقنا لكم.
جاء الدكتور وأمه لزيارة أهل سميرة قال: بداية اود أن ابارك إلى سميرة بتعيينها أستاذة مساعدة في كلية الأدب الفرنسي، وأنا سأختارها مساعدتي…
قالت أم الأستاذ: أنا ايضاً أتمنى ان تقبلوا بان تكون سميرة شريكة حياة ابني في حياته، وملكة منزله، كما ستكون زميلته في الجامعة…
تزوجا، سميرة تابعة دراسة الدكتوراه لتكون أستاذة، لا مساعدة.
رزقهما الله ثلاثة أولاد رائعين، وعندما كان الدكتور يغازل زوجته مدللاً إياها كان يناديها يا معاونة الباص…