بقلم / محمد كمال الصعيدي
في ثقافتنا التي تمجّد القوة وعدم الاهتزاز، تحولت عبارة “أنا بخير” إلى قناع جماعي نرتديه جميعاً. لقد أصبحت هذه العبارة هي الرد التلقائي، والمخرج الآمن، والدرع الواقي الذي نفصل به أنفسنا عن التعبير الحقيقي عن المشاعر، خوفاً من أن تبدو حقيقتنا “هَشّة” أو غير مكتملة. لكن، ما هو الثمن الباهظ الذي ندفعه مقابل هذا الإنكار المستمر لضعفنا البشري الطبيعي؟
وهم “الشخص المثالي”
تبدأ الأزمة عندما نتبنى فكرة أن الحياة يجب أن تكون مسيرة مستقيمة خالية من الانكسارات. وسائل التواصل الاجتماعي تعزز هذا الوهم، حيث لا يظهر فيها سوى النجاحات المُبهرة، والإجازات المثالية، والابتسامات الخالية من القلق. وفي محاولة منا لمواكبة هذا الإيقاع المُتخيل، نلجأ إلى كبت أي شعور بالفشل، أو الحزن، أو حتى التعب العادي.
نحن نتعلم كيف نبتسم حتى عندما تنهار أعماقنا. لكن هذا الكبت ليس إلّا تأجيل لانفجار وشيك. إن المشاعر المكبوتة لا تتلاشى، بل تتحول إلى ضغط داخلي مستمر، قد يظهر على شكل قلق غير مبرر، أو توتر دائم، أو حتى أعراض جسدية مزمنة.
القوة الحقيقية ليست في الإنكار
إن الاعتقاد بأن إظهار المشاعر السلبية هو ضعف، هو سوء فهم للقوة. القوة الحقيقية تكمن في الشجاعة على الاعتراف؛ الاعتراف بأن اليوم كان صعباً، بأننا نشعر بالإحباط تجاه قرار ما، أو أننا ببساطة مرهقون.
عندما نقول “أنا بخير” ونحن لسنا كذلك، فإننا لا نكذب على الآخرين فقط، بل نكذب على أنفسنا أولاً، ونمنع فرصة تلقي الدعم الذي نحتاجه بشدة. إن إخفاء الجرح هو ما يجعله يتعفن، بينما تعريته للهواء والضوء هو أول خطوة نحو الشفاء.
كيف نُعيد بناء جسور الأصالة؟
لبناء حياة أكثر أصالة وأقل إرهاقاً، يجب أن نتحرر من متلازمة “أنا بخير” المزيفة. الأمر يتطلب تحولاً ثقافياً يبدأ من المستوى الفردي:
كن صادقاً مع المقربين: حاول استبدال “أنا بخير” بردود أكثر دقة مثل: “أنا متعب قليلاً اليوم ولكني سأتجاوز الأمر”، أو “هناك بعض الضغط ولكني أعمل عليه”. هذا يفتح الباب للتواصل الحقيقي.
اجعل “طلب المساعدة” قوة: يجب أن نرى في مدّ يد العون دليلًا على النضج والوعي بحدود الطاقة البشرية، وليس دليلاً على العجز.
احتفل بالانكسار: تقبّل أن الفشل والخسارة جزء أصيل من أي مسيرة ناجحة. إن أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ هي تلك التي اعترفت بانكساراتها واستمدت منها القوة.
في النهاية، الهشاشة ليست ضعفاً؛ إنها الإنسانية عينها. وعندما نسمح لأنفسنا بأن نكون هشّين وشفافين، فإننا لا نخفف العبء عن كاهلنا فحسب، بل نمنح أيضاً المحيطين بنا الإذن بأن يكونوا هم أنفسهم، دون خوف من حكم أو تصنيف.