لليل وجهان
بقلم :عليا عاصم
لايمت أحداهما إلي الآخر بصلة. كأنهما غريبان عن بعضهما البعض, ليس لي عليهما سلطان. كل يوم يأتي فيه ليلي بالوجه الذي يشتهيه. فأحياناً يأتي الوجه الأول و هو الذي أعشقه و أنتظره .
يأتي ليفرض نهاية اليوم بما يحمل من تعب و ضوضاء الناس الذين قابلتهم في يومي في العمل , الشارع , المواصلات أو حتي في البيت .
يأتي الليل ليأخذني من حياة النهار إلي خصوصيته التي لا يبدعها إلا معي . خصوصية بمذاق غريب أعشقها و أكرهها في ذات الوقت و أتعجب من نفسي و لكني أدرك إني أعشق القهوة رغم مرارتها , بل و أجد لذة في أرتشافها رشفة رشفة .
و هنا يبدأ الليل في فرض سيطرته علي عقلي فما لجسدي من كبد اليوم اي قدرة علي التعامل . فجسدي ملقي علي سريري بلا أي جدوي من أن يأتي بحركة . فيتعامل فقط مع عقلي فيبدا بحديث جميل من التمني و الأحلام , إلي أن يتلبس الحديث روحي و يأخذني في رحلة إلي مسرح الأحلام , أكبر مسارح العالم أنه مسرح أفكاري و عنوانه رأسي .
أجدني علي شاطئ واسع وقت الغروب و صوت أمواج بحره المتسابقة برقة و هدوء يحاوطني , و ضوء الشمس الذي يعلن عن غروبه و يأذن لسلاسل الفضة بالحضور . و يجعل البحر أن يبتلع ما تبقي من شمس حمراء لونها يحبس أنفاسي , و أنا أودعها , حينها يقبل فارسٌ و لكن بلا جواد . يحضر ليقف أمامي بجسده الممشوق و عضلاته المفتولة و عيناه الواسعتان و يداه الكبيرتان . يقترب مني فيشبك يده بيدي , يراقب معي الشمس الراحلة و يستقبل معي القمر الرائع .
يبدأ بحديث جميل أخاذ يذهب بعقلي إلي عالم يشبه عالم الأحلام الخيالي فلا أشعر معه بوقت ولا أرض ولا سماء , فقط هو و صوته و دفء قلبه .
يجذبني نحوه في حنان فأختفي في حضنه و أشعر بالأمان و الطمأنينة , و لا ينفك أن ينتهي من موضوع إلا و يفتح موضوع غيره حتي أقبلت علينا نسمات الهواء الباردة بإنتعاشها و صوت أذان الفجر يعلن عن وجوب إستيقاظي ليبدأ يوم جديد .
و يأتي الوجه الآخر من الليل فيأخذني علي حين غرة ليقذف بي في غياهب الوحدة , تلك الصحراء الجرداء الموحشة , لا يسمع فيها إلا صرير الخواء , و أشباح الذكرايات تتوالي عليّ كنيازك الكون المشتعلة المتناثرة , كلما حاولت الفرار من واحدة رمتني بأخري قاتلة , و تظهر من بعيد أضواء ضعيفة أظنها أبواب النجاه , أجري نحوها فإذا بها سياط الحنين الموجعة تنزل علي قلبي فتفتك به كذئاب مسعورة وجدت فريستها الضالة فتتلذذ بإلتهام هذه الوجبة الشهية و تغرس أنيابها الضارية في كل جزء من جسدي الذي يستسلم رغماً عنه مكبلاً بسياط الحنين و الإفتقاد و الضياع . و تشعر أطرافي بالبرودة الشديدة و يرسل العقل استغاثات مكثفة و لكنه يشعر بالعجز الكلي عن إنتشالي مما أنا فيه . فترق نفسي عليّ و تسمح لعيناي بأن تفيض لتهدأ من وطأة الصراع .
و تأتي يدي متسللة من تحت ملابسي تتحسس جسدي المنهك و تربت عليّ لعلي أهدأ و أقاوم سيطرة الليل المحكمة . و عندها يستغل عقلي هذه الإستفاقة الباهته فيسارع بإرسال إشارات من نور ضعيفة كضوء الشموع و لكنها تأبي أن تتركني أعيش في ظلام قفصي الصدري , ثم تقوي هذه الومضات إلي أن تصبح موجات كهربائية تضرب القلب لتنعشه من غيبوبته حتي لا يستسلم , تزيد من قوتها لتصل لقوة الرعد في سماء ملبدة بالغيوم تعافر حتي ترمي ما بها من هموم و أثقال لتصبح صافية .
يحتدم الصراع بين عقل يحارب بكل ضراوة و قوة و أستبسال حتي لا يترك هذا القلب يموت . و بين وحوش الليل المسعورة و اصوات ضرب طبول الحرب المنذرة بدمار و إنهيار تأتي طيور الأمل ترفرف و لا تتواني و لو لثواني و تغرد بالدعاء و تلقي بحبلٍ من الله لأعتصم به , و كيف لي ألا أعتصم بحبل الله !! اليس هو القادر القهار الذي بيده مفاتيح الكون و القدرة علي الليل و النهار ؟!! أليس قادراً علي أن ينهي ليلي في لحظة و تشرق في حياتي شمس النهار؟؟!!
و بين الصراع و الجذب و الشد تضرب عيناي أشعة الشمس الوليدة ليوم جديد , تتمني بإستبشاراً بأن الفرج قريب . و لكن حرب الليل تركت أثارها علي أجفاني و رسمت سواداً و ندبات تعجز عن إخفائها أقوي أدوات التجميل .
وجهان الليل و سيطرتهما عليّ , و النهار هو من يقوم كل مرة بدور المخلص الوحيد منهما , النهار لا يتغير , ليس لديه وجهان , هو الواقع ,هو مزيج متكامل من عناصر الحياة , الحقيقة , القسوة , الأمل و الأمان , هو من يدرك تماماً مدي الإحتياج و ألامه كما يدرك تماماً مدي لطف الله و كرمه .