كريستالة الفرادة و الهيبة…

كريستالة الفرادة و الهيبة

الناقدة : وداد معروف / مصر

” تعددت الوجوه والكريستالة واحدة ، هكذا أرى أمي وجوه كريستالة ، وجهها يشع مرة فتضئ الدنيا ، ويصفو أخرى فيظهر فيه وجهي ، وجهها يحمل ملامحي وملامحها ، أراها وجوها تحمل وجوه الأمهات في بلدي” .
إذًا فقد جعل العالم الجليل أ.د محمد عبد العزيز عبد الدايم ، ( أستاذ النحو والعروض ؛ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ) ، من السيرة الذاتية لوالدته ، سيرة لأمهات مصر الراقيات الرائعات .
شاركْتُ في أمسية نقدية أقامها نادي دار العلوم لمناقشة (الرواية السيرية) ، كما أطلق عليها أ.د عبد الدايم ، في مارس الماضي ، ثم تسنى لي اقتناء الرواية إهداءً منه ، قرأتها في أسبوع ، فهي تقع في 303 صفحة ، عشت معها وعاشت معي الكريستالة حتى سكنتني ، تعرفت من خلال السرد الأمين للابن البار ، على سيدة أدهشتني بحكمتها وامتلاكها لمشاعرها ، واستلامها سفينة تحمل أبناءها الستة بعد الوفاة المبكرة لوالدهم ، وهو بعدُ في الخامسة والأربعين ، كانت حينها في الثلاثين من عمرها ، ولأنها ليست كالنساء العاديات ، فقد رسمت للسفينة خط ملاحتها ، تسير فيه دون تدخل من أحد في طريقة قيادتها لتلك السفينة ، فللتربية عندها أسرار وهي ( عدوى) ، فالعدوى أنها تلتزم الهدوء والحكمة والمنطق ؛ حتى يضطر إليها من لا يعرف حكمة ، هي أيضا إيحاءً و حسما و منطقا ، تلتزم اللفظ المناسب حتى يستحي من أمامها ، من أي لفظ غير مناسب ، أما في الصواب والخطأ فهي تلتزم التربية بالإيحاء ، وللرغبات الصحيحة تعتمد تربية الاختيار ، ولتقوية ابنها وحسم الأمور معه ، ليس أمامها إلا طرده من البيت ، كل هذا وهي لم تدرس علم نفس ولم تخصص له قراءة خاصة .
في البداية من المهم أن نعرف من هي الكريستالة؟ ، إنها المرأة ذات الأصل الطيب ابنة تاجر القطن الكبير ، التي تربت في بيت عز ورفاهة ، كان فيه الخدم والمساعدون ، فلم تُهَنْ في عمل ولا في خدمة ، فقد كان عندها من يخدمنها ، كان بيت علم ودين ونشأت على ذلك ونشَّأت أبناءها نفس التنشئة ، حببتهم في الخير وفعله ، تزوجت من معلم لغة عربية ، من قرية مجاورة ، يضاهيها نسبا ومكانة ، الكريستالة قارئة نهِمة ، رغم كونها لم تكمل في تعليمها المرحلة الابتدائية ، لكنها شغفت بالقراءة كون والدها التاجر الكبير ، دارس في الأزهر وكذلك جدها ، فوجدت الكتب في بيتهم أمرا عاديا ، هذه القراءة شكلت شخصيتها ورتبت عقلها، هذا إلى جانب صفات أصيلة فيها ، ورثتها عن والديها ، الحكمة والشخصية القوية وحسن الرأي ، كان أكثر ما أدهشني في الكريستالة أنها كانت مستمعة جيدة ، حتى وإن لم توافق محدثها الرأي ، فهي تحترم كل الآراء وتقبل الاختلاف ، وتعرف أن الناس كالفسيسفاء ، يختلفون ليكتملوا ، كما أنها كانت تناقش إخوتها الذكور وهم جميعا في مستوى تعليمي مميز ، تناقشهم في كتابات الرافعي والعقاد وطه حسين ، وروايات نجيب محفوظ وعبد الحليم عبد الله ، تقرأ الجرائد اليومية وتلم بالسياسة والاقتصاد ، والاجتماعيات كل ذلك جعلها شخصية مثقفة واعية ، انعكس على حياتها كلها ، وحياة أولادها .
كتب الدكتور محمد عبد العزيز عن والدته ، بأمانة علمية ظهرت في أنه كان يراجع أمه في المواقف التي سردها ، ويقرؤها كتاباته ، فتصحح له وتزيد تفاصيل لم يذكرها ، كما فعل ذلك أيضا مع خاله ، عرض عليه مسودة الرواية ، ففعل كما فعلت الوالدة ودقق الأحداث والمواقف .
هذه السيدة التي تميزت بصفات كريمة ، هي لا تشعر أنها تستحق الكتابة عنها ، حينما أخبرها ابنها أنه سيكتب سيرتها في كتاب ، وكان هذا بعد جائحة كورونا وقد أصابته الجائحة ، فأراد أن يحفظ هذه السيرة العطرة بين دفتي كتاب ، حينما أخبرها بمشروعه الكتابي ، قالت له : أنا ككل الأمهات ، ليس في حياتي ما يستحق الكتابة عنه ، وكان هذا دأبها دائما فكثيرا ما تردد ، حينما يعجب أحد من محيطها العائلي بشخصيتها ، تقول: والله ما عندي شيء متميز ، وكل النساء مثلي .
لما رأت إصراره علي الكتابة عنها ، نصحته بقولها : لا تجعلها طويلة فيملها الناس ولا يقرأونها .
وأنا أقول لها كيف : ” لا يكتب عنك أيتها الحكيمة ، التي ما طلبت وما ألحت على أحد من أولادها أن يزورها يوما ، وإنما تتركهم على راحتهم ، كيف وأنت من قلت في رفضك التدخل في حياتهم ، عيشوا حياتكم بما يسعدكم ، وإن كان ثمة خطأ لا يمنع سعادتكم ، فلا يخبرني به أحد ، دعوهم يعيشون بسعادتهم ، ولا تفسدوا سعادتي بهذا الخبر ، لن أناقش فيه ابني ما دام يتقبله ، ولن أنغص عليه حياته ، ولن أحزنه بمناقشته ” .
عندما طَلب أحد أبنائك لجهة سيادية ، وكان مسافرا خارج البلاد ، وشعرت أن هذا الأمر يضغط عليه نفسيا ، أنت من بادرت وذهبت للجهة السيادية ، وقدمت إليهم ما يحتاجون من معلومات عادية ، وقلت لهم : لدي كل ما تحتاجونه من بيانات ، فقالوا لك : لماذا أرهقت نفسك وجئت؟ ، كان يكفي الدكتور ، قلتِ : لدي كل ما تحتاجونه من بيانات ، مما يخص هذه الرحلة ستجدونها عندي ، ثم قلتِ لهم : ما بقي لديكم من أسئلة وما تحتاجون أحد آخر تسألونه؟ ، فشكروكِ وانصرفتِ ، وأنت المرأة التي لا تخرج من بيتها إلا للعزاء أو لزيارة مريض .
حتى ترفعي عن ابنك الضيق بهذا الأمر ، واتصلت به وقلت له : انتهى الأمر يا عم والأمور إلى خير ، كما أنك عدلت لابنك في هذه الرواية معنى وأنت من تعديت من العمر الثمانين ؛ حينما كتب عن أخته أنها شاركت أمها الترمل ، فقد قعدت على إخوتها الأيتام ، فصوبَتِ له وهو أستاذ النحو والصرف ، وقلتِ له : لَمْ تقعد ، وإنما تزوجت ، فالقعود هو عدم الزواج .
كتب الدكتور محمد عبد العزيز الرواية السيرية ، على طريقة اللوحات المتنوعة ، فهو لم يلتزم فيها تسلسل الأحداث ولا تتابع المواقف ، وإنما مشاهد من حياة ومواقف تلك الأم الحكيمة .
كانت علاقة الابن بالأم علاقة صداقة نادرة ، فهو يناقشها في كل أمور حياتهز، المكالمة اليومية بينهما قد تمتد لساعة ، يعاقب نفسه إن مر يوم ولم يهاتفها ، تتنوع الحوارات بينهما ، قد تكون في شؤون العائلة ، وقد تكون في الاقتصاد أو في السياسة أو في الحديث ، عن رواية قرأتها أو قرأها هو ، أو يستشيرها في قرار سيتخذه ، كما أنه كان يراجعها في مواقف صدرت منها في زمان بعيد ، ولم يفهمها حينها ، فتشرح له ما خفي عليه .
كما قال العقاد إن لكل شخصية مفتاحا ، فإذا عرفته أمكن لك الدخول إلى هذه الشخصية ، ومفتاح شخصية الكريستالة ، هو ( الهَيْبة) فهي شخصية صاحبة هيبة ، وهي محافظة على تلك الهيبة حتى مع أولادها ، تضع حدودا لا تتعداها ولا تسمح لأحد أن يعبرها.
“من كلماتها : ستر الله للناس خير من ألف شهرة ومجد ” ، من منا يعلم الغيب ؟ ولكني كنت مطمئنة أن الله سيدبرها ، وهو يعلم أني غير سعيدة بحجبك عن فضيلة ، كما قالت عند تقدم الخطَّاب لابنتها ، وكانت ترفض خطوبتها قبل أن تكمل تعليمها ، حين اعتبر ابنها هذا الرفض نوعا من الظلم للفتاة ، كونها لم تعرف ، فقالت له : صرف الخطاب وتأجيل الأمر قرارنا نحن ، أما قرارها فقبول أو رفض ما نفكر في قبوله .
الحديث عن الكريستالة يطول ، وعن بر الأبناء بها ، وخاصة كاتبنا يعجب ويدهش ، لكني سأختم بقول الكاتب : ” لقد صغت عشرات النظريات ، وصنعت المناهج ذوات العدد ، وأخرجت في كتبي أكثر ما في الكلام من ظواهر ، نقدت لهم روائع فكرنا ، وطاولت المستشرقين ، وكانت لكلماتي اليد الطولى على ما قالوه ، فما أطاقه عقل وما أنصفه قلب ، …. يا أمي ، لا يقتني الناس كتب العلماء ، وإذا أُهديتْ إليهم لا يقرؤنها ، وإذا قرأوها عجزوا عن مواكبتها نقدا ، أو حتى فهما ، اتركيني آوي إليك بعد رحلتي الطويلة ، فقد صرت مجهدا ” .
فهذه الرواية السيرية كانت لكاتبها العودة للاستشفاء بالذكريات ، والاسترواح بعطر المحبة والبر باالأم وبا المرأة بعامة .

وداد معروف

شاهد أيضاً

هيا لنقوى من جديد

➖️ هيا لنقوي من جديد : كتب سمير ألحيان إبن الحسين __ لماذا؟!؟!   _ …