طلاب من الدانمارك
بقلم الكاتب عبده داود
كمال، خريج كلية التاريخ في جامعة دمشق، كان يأمل الحصول على وظيفة مدرس في بلدته النبك، بريف دمشق، لكن حينها لم يكن متوفراً شاغر.
صار يساعد والده في الزراعة منتظراً فرصة أخرى في سنوات لاحقة…
كمال كانت هوايته ركوب الدراجة الهوائية، معللا ذلك بقوله: دراجتي تشعرني بالفرح، لأنها توحدني مع الطبيعة، أمتطيها وأعبر بها البساتين، أتنسم الهواء النقي، واشم أريج الزهور، وخاصة في الربيع عندما تتفتح زهور المشمش فتعطر الجو، وتجمل البساتين…
ذلك اليوم، قرر كمال زيارة مغارة كانت مسكن للإنسان القديم في مدينة يبرود القريبة من مدينة النبك،
تفاجأ بمجموعة شباب وصبايا سواح يزورون تلك المغارة…
كمال يتكلم الإنكليزية بصعوبة، لكنها كانت كافية للتواصل مع الأجانب الذين يتكلمون الإنكليزية كلغة ثانية. وعرف بأنهم وافدون من الدانمارك…
أفرحهم جداً كون كمال خريج كلية التاريخ…
لأنهم هم أيضاً يدرسون التاريخ القديم، وسوف يقدمون مشروع تخرجهم عن الشرق الأوسط، وكنائس بلاد الشام…
قالوا جئنا نبحث عن سكن الانسان القديم قبل أن يولد التاريخ، وهذه المغارة هي إحدى المغارات التي ورد ذكرها في كتبنا.
فرحوا عندما عرفوا بأن كمال من النبك، وقالوا له بأنهم عازمون على زيارة دير مار موسى الحبشي في النبك، لأنه واحد من أقدم الأديرة المسيحية في العالم.
استضاف كمال الطلبة شابين وأربع صبايا
في منزل أهله في النبك، ورحبت العائلة في الضيوف الأجانب أي ترحيب، وأقاموا لهم عشاءً احتفالياً، وبعدها أحيوا سهرة طرب لطيفة حضرها أصدقاء كمال والجيران.
في اليوم التالي أخذ كمال السواح وأراهم مدينة النبك وما أشاده الدانماركيون فيها في اربعينات القرن الماضي ومنها الكنيسة الإنجيلية، والمستشفى الدانماركي، ومدرسة تهدمت لكن لا يزال تلاميذها يفتخرون بأنهم تعلموا فيها.
بعدها أخذ كمال الطلاب الدانماركيين إلى دير مار موسى الحبشي والذي يعود تاريخه إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي…
فرح الطلبة عندما وجدوا أنفسهم يزورون واحداً من أقدم الأديرة في العالم… كذلك أسعدهم كثيراً بان الدير قدم لهم الإقامة النظيفة والمريحة مع الطعام الشهي، وكل ذلك مجاناً…
فرحتهم كانت كبيرة وهم ينهلون من المعلومات الصحيحة والكاملة عن الدير وعن المنطقة كلها معلومات موثقة بالصور والمخطوطات والكتب التاريخية…
زاروا عدداً من الاديرة الموجودة في المنطقة، ومنها دير مار اليان في القريتين، ودير مار يعقوب المقطع في قارة، والكنيسة القديمة في يبرود، وكنائس معلولا وصيدنايا وأيضاً زاروا كنائس دمشق
وهذه جميعها من الأديرة والكنائس الأولى في العالم وهي قريبة بالمكان من بعضها البعض مما يدل على كثافة الوجود المسيحي في هذه المناطق في القرون الأولى الميلادية…
كمال جعل من نفسه دليلاً سياحياً للطلبة وهم كانوا بغاية السعادة مع هذا الدليل المثقف اللطيف والمهذب، وقالوا هذه أجمل رحلة استكشافية يمكن أن يقوم فيها طلبة مثلنا.
بعد أن استكمل الرحالة دراستهم، قرروا متابعة الرحلة إلى الأردن وفلسطين، لمتابعة أبحاثهم المنشودة.
حمل الطلبة حقائبهم على ظهورهم، وتم الوداع الحار بينهم وبين رهبان والراهبات الدير ونزلوا على الدرج الحجري من رأس الجبل، ليصلوا إلى سيارتهم في الوادي…
نينا واحدة من صبايا المجموعة، صبية مرحة، طيبة جداً، كانت الدموع تملأ عينيها وهي تغادر الدير الذي أعجبها لدرجة العشق. أثناء نزولها كانت تعاود النظر إلى الخلف وتلتقط الصور لذاك الدير… على حين غرة، تفركشت بحجر، سقطت وتدحرجت عدة درجات، وعجزت على النهوض، وهي تصرخ من الألم…ساعدها كمال ورفاقها وحملوها إلى السيارة وذهب الجميع إلى مشفى القلمون. (مستشفى الدانماركي سابقاً). أظهرت صور الاشعة كسوراً في ساقها مما توجب اجراء عمل جراحي لها، وتثبيت الساق بالجبصين القاسي.
قال الطبيب يجب أن ترتاح لمدة شهر على الأقل بدون حراك.
أصاب المجموعة الهستيريا، كيف سيتركون نينا في النبك؟ وقتهم لا يسمح لهم، وعليهم إنجاز مهمتهم الدراسية، ووقت الرحلة كاد أن ينفذ ومن الذي سيبقى معها في سورية، ألف سؤال وسؤال، وبدون جواب واحد…
أخيرا قالت أم كمال، اذهبوا أنتم، نينا ستبقى عندي في البيت معززة مكرمة، وبعدما يسمح لها الطبيب بالسفر، سنوصلها نحن إلى المطار، أرجو ألا تحملوا هماً اطلاقاً. كان هذا الاقتراح فرجاً حقيقياً للمجموعة.
تابع زملاء نينا رحلتهم الدراسية، وحملت سيارة الإسعاف الشابة إلى بيت أهل كمال.
نينا صبية أية من الجمال والطيبة واللطف…
خصصت العائلة غرفة خاصة إلى لينا، ووضعوا لها جهاز تلفاز في غرفتها، ووفروا لها خط انترنيت مفتوح لتتواصل مع أهلها، ومع زملائها…
كمال بذل كل طاقته لإسعادها، ومساعدتها في دراستها، واحضار المراجع الخاصة لأبحاثها التي تطلبها، وحتى التي لا تطلبها.
كانت نينا تصور كمال وأهله بموبايلها وترسل الصور إلى أهلها في الدانمارك، وتطمئنهم عن حالتها، وكم هي سعيدة مع هذه العائلة الطيبة…
والدا نينا احتارا ماذا يفعلان حتى يردان بعض الجميل إلى هذه العائلة الطيبة التي استقبلت أبنتهم ويقومون على خدمتها بمحبة وحفاوة دون أي مقابل.
أرسل أهل نينا مبلغاً كبيراً من المال هدية إلى أهل كمال…
الحقيقة لم تكن الهدية منتظرة ولاحتى مطلوبة، رغم فقر العائلة لكنهم كانوا يعتبرون الذي يفعلونه خدمة لله وواجب إنساني عليهم…
والد نينا أستاذ جامعي في كلية التاريخ في جامعة كوبنهاجن، طلب من أبنته أن تسأل كمال إذا كان يرغب في إتمام دراسته في الدانمارك ليحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كوبنهاجن، ربما سيوفر لكمال بعثة دراسية على حساب الجامعة.
بالنسبة إلى كمال يعتبر هذا حلم لم يكن يتجاسر حتى أن يحلم فيه…طار صوابه فرحاً بهذه الخبرية، وبسرعة البرق ترجم أوراقه الثبوتية وصادقها من الخارجية، والسفارة الدانماركية، وأرسلها إلى أبو نينا.
شفيت نينا تماماً، وتعلق قلبها في النبك، وفي أهل كمال، والحقيقة المساحة الكبيرة في قلبها، كانت لكمال الذي عشقته بصمت، ولم تصارحه بعواطفها… وسافرت…
تحقق قبول كمال في جامعة كوبنهاغن. سافر ودموع أهله أبت أن تجف…
استقبلته نينا وأهلها بحفاوة، وأحس بأنهم يحملون له الكثير من الود، وخاصة نينا كانت مكنونات قلبها، تفور من عينيها…
تقدمت نينا إلى مشروع التخرج النهائي في الجامعة، هي والطلبة الذين كانوا معها في سورية، ونجحت بتفوق، هنأت اللجنة الفاحصة لينا، وقالوا لها تستحقين نيل الإجازة بامتياز، على هذه الدراسة المتقنة الشاملة والموثقة.
قالت لينا، أشكر اللجنة، وأشكر كل الذين ساعدوني وأخص بالذكر صديقي وأستاذي كمال السوري، وأشارت اليه، وطلبت اليه الحضور ليقف بجانبها على المنصة وقالت: هذا الشاب هو سر نجاحي، هو الذي يستحق الشهادة، وروت لهم قصة وجودها في سورية…بل في الحقيقة قصة حبها الذي خبأته قسراً في قلبها… ورفضت البوح فيه. وقالت لم أعد أستطع كتمان حبي أكثر…
أخذ كمال مكبر الصوت وقال بلغة مكسرة أنا احبك يا لينا، أنا أحببتك، مذ رأيتك، ولا أملك شيئاً غير قلبي اهديك إياه…هل أطمع أن أنال قلبك بالمقابل…
قالت لينا، قلبي ليس معي، أنا لم أعد أملكه، أنتم، أنت وأهلك من خطف قلبي…
وقف جميع الحاضرين يصفقون، ويهتفون مبارك لينا، مبارك كمال…
تزوج كمال ونينا وتابع هو دراسته ونال شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأدنى والأوسط.
عرضت عليه الجامعة راتبا عاليا ليعمل أستاذا في الجامعة، لكنه رفض وقال سأعود الى بلادي، لقد اشتقت الى ارض أبي… اشتقت إلى دراجتي الهوائية لأعبر عليها بساتين ووديان ضيعتي… لكنه لاحقاً قبل الوظيفة، لأن لينا رفضت السكن في سورية لأجل مدارس أولادها…