خربشات غسان
شجرة السنديان
كثيرا ما أهرب من ظلام الدنيا لأختبئ في ظلها.
أتوه خارج حدود الحياة وأنا أتنشق رأئحة النسيم المعطر من أنفاسها.
عندما تضغط هموم الدنيا كصخرة جاسمة على صدري تقودني قدماي بلا وعي مني حيث تقبع على قمة ذلك الجبل المتربعة عليه قريتي كاشفة مساحات لامتناهية من السهول والجبال بلوحة من صنع الخالق لا قدرة لفنان أن يجاريها
كثيرا ما أنام بظلها وأنا أشعر بها تطاول أغصانها مانحة إياي ماتحمله بداخلها من حب وطيبة .
كنت مستلقيا تائها أستعيد بذاكرتي عمرا عشته عبر مثل الحلم …
بالأمس كنت طفلا يوم زرتها لأول مرة بصحبة والدي الذي أخبرني أنها كانت وعلى مر سنين طويلة ملاذا لأجدادي قبلي هي تلك السنديانة التي لاتزال شامخة تشهد على تاريخ طويل من الذكريات
كان حديثه يومها مقتضبا وحتى عندما سألته أن يحدثني عنها قال لي :
ستخبرك هي بنفسها يوما
اليوم ولأول مرة أسمعها تحدثني ..
لم أكن أدري أنها قادرة على الكلام حتى سمعتها تعاتبني عتب الأحبة :
…منذ مدة طويلة وأنت غائب عني
حاولت أن أشرح لها كيف تسرقنا الدنيا بمغرياتها وبنهاية المطاف تلقي بنا متهالكين نحاول أن نسترد بعضا من أنفاسنا المتقطعة من شدة الجري خلفها.
عادت لتلومني على غيابي وبنفس الوقت تخبرني أنها تعلم بعذري:
أنا أدرك أن حياة المدينة مختلفة عن القرية ..
وأدرك أن ما حملته من تعب ومعاناة كان أكبر من أن يوصف …
وأدرك أيضا أنك مقتنع بما حققته وأن مشوارا طويلا سرته وقد أتممت أغلب ماصبوت إليه
من قام بكل ما سعيت إليه يجب أن يكون مسرورا بعد أن شاب منك الرأس وحنى العمر ظهرك …اليوم حان موعد قيلولتك التي حلمت بها طويلا …
أذكر كيف كان جدك لايفارقني وفي كل صباح يوقظني وجميع سكان القرية حتى القرى المجاورة مع اطلالة الفجر على صوته وهو يرتل آيات من القرآن الكريم بصوت فيه الكثير من الطيبة والحب …
أذكر كيف كان يجلس لساعات تحت ظلي يقرأ بكتابه ذلك الكتاب الذي منحه كثيرا من صفات الحب وإشراقة الوجه والطيبة.
اليوم أنظر إليك وكأني أراه يعود إلي من جديد بصفاته صفاة الطيبة والحب الذي تحمل …
أخبرني لم حزنك ولم أراك كمن يهرب من الدنيا
كنت أسمعها وأنا سارح أفكر أشجرة سنديان تتحدث …
عندها تذكرت كلمات والدي لي :
هي من سيخبرك عن نفسها.
صديقتي لقد غرتني الدنيا بمباهجها وسرقتني من أحضانك وكانت تلك غلطتي الكبرى…
منحت الحب لكل من عرفت ..
منحت لمن هم قطعة من روحي كل ما في روحي من طيبة …
وها أنا أظن أني عبرت طريق رحلتي بكثير من الحب ونثرت أزهار تعطر أجواء من رافقني.
تسالينني لم حزني وضيق أنفاسي…
نسير بطريق ونحن نأمل في نهايته أن نصل إلى موضع نحط به رحالنا لنستريح ونسترد بعضا من أنفاسنا…
نلتقي بسيرنا بكثيرين منهم من يحاول سلبنا او طعننا نبتعد عنه ونسعى لتجنبه وهم لايخفون كرههم وعدائهم ورغم ذلك نحاول تجنبهم بالكلمة الطيبة والروح المحبة…
ومنهم من يظهر الحب وتتمسك به على طول رحلتك تمنحه كل حبك وتبدي له كل الطيبة …
إن أخطأ تغفر له…وإن تاه عن الدرب تحاول إعادته بكل حب…
إن تعمد جرحك وطعنك تبحث له عن عذر …
يدعي محبته ولكنه لا يدع فرصة لطعنك إلا ويستغلها ورغم ذلك تكرر الإعتذار له ومنحه دفء حبك وكل اهتمامك…
ليأتي يوم وصولك إلى نهاية طريقك وأنت لم تتركه حتى أوصلته إلى بر الأمان رغم طعناته الكثيرة التي تجاهلتها كي لا تسمح للموت أن يسلبك طريقك وفي نهاية المطاف تجده هو أول من يطعنك بكل مالديه من قوة وهو يدعي حبه الكبير لك…
يصفك بالغباء لطيبتك…يصفك بكل أنواع النعوت الجارحة وهو يدعي حبك…
صديقتي ها أنا كما ترين أهرب مبتعدا إليك حاملا معي جراحي وجميع أوجاعي لعلمي أنك تحملين الطيبة والحب والصدق فهل أجد ملاذا بقربك…
تمايلت أغصانها مطلقة نسيمها الذي ينشر بتمايلها عطرا محملا بكل الحب والطيبة وهي تخبرني أنها أعدت لي موضعا تحت ظلالها حيث يرقد والدي وأجدادي منتظرة أن آتيها لأريح أكتافي من تلك الدنيا الكاذبة تلك التي تعتبر الطيبة غباء …والحب منفعة …
سآتيك وكم أرجو أن تكون رحلتي شارفت على نهايتها لأستقر بذلك الموضع حيث لاكذب ولا غدر وحيث مازال صدى صوت جدي يتردد حاملا ترتيله لتلك الآيات ناشرا الحب والطيبة لمن يفي بوعود الصدق.
غسان يوسف (سورية_طرطوس)