أخبار عاجلة

“شال الوطن.. ووصية التراب”

“شال الوطن.. ووصية التراب”
ريم خالد
بعد اجتماعٍ فرحٍ ومسرّة، زغاريد وأهازيج غنائية ضجّت شوارع المدينة، تراقصت روحه فرحًا، وغمرته ذكرى رؤية أيام نضال أجداده الشامخة.
هطلت طفولتته كشريط ذكريات سريع؛ وفيه وهلة، زال تعب هذهِ الأيام، تذكر سنينًا متراقصة بالبراءة والمرح: المسدسات المائية، رقعة الشطرنج، والألعاب النارية .
ابتسم لوهلة،
وعاد لواقعه،
وهمس بقلبه: “لبيك موطني، دمت شامخًا”.
عاد لغرفته متعجلا بصمت مخيف خيّم على الجميع، بعد أن أغلق كل بيت بابه، وبات الصمت هو سيد هذه الليلة بعد يومٍ حافل.
بينما هو يحمل قرع طبولٍ في رأسه تحمل تضاد
تفتت روحه
عاد مشهد دموي به إلى القاع:
“أنين الحرب، أصوات الطائرات، رائحة البارود، وآهات الجرحى، وتسبيح الأمهات”.
يُحملق بين أفكاره بذعرٍ واضح، صدمه بادية على ملامحه، قبض كفّه، وتساءل خفيه بينه وبين نفسه:
كيف لوطنٍ أن يحمل ثقل أفكاره ومشاعره المتضاربة؟
يمجّده مخلّدًا لترابه تارة، ويتمنى تارة أخرى فرصة واحدة ليحلق بالرحيل.
فتح دولابه، المكوّن من صندوق خشبي توارثه عن والده، وأخرج ثيابه حتى وصل إلى القاع وفي زاوية الصندوق وجد “بقشة” صغيرة مزينة بالمشاقر، تحمل رائحة الريحان.
فكّها برقة، يخاف أن تفقد شكلها الذي ظلّ مخلدا لها منذ وفاة والديه.
فتحها بتلك النعومة الناشئة، كمن يمسك طفلاً حديث الولادة.
وجد شالًا وورقة عتيقة بنيه اللون، مكتوبة بخط الرقعة .
قبل أن يستمتع به فضوله لقراءتها، أخذت قطعة الشال، التي عصرت وجع أيامٍ خوالي، دم الشهداء الأحرار سُفكت.
على شالٌ مرصّع بالصبر، حياكته تطلبت روحًا بيضاء، كبياض اللون فيه، أُضيف فيه لون أسود ليُرى جمال الصفاء بعد سوادٍ مكفّر.
بعد ليالٍ من الصبر والعناء، غزت دمعه هاربه خفية من عينيه، التفت حوله ليتأكد أن لا أحد يرى شوقه، فيعاير دموعه الحالمــة.
شدّ الشال إلى قلبه، يستنشق رائحة والدته ذاتها، المصبوغة فيه منذ ثلاثين سنة.
بكى ونحب، حتى شعر بشيء يؤلم أضلعه.
أبعد الشال قليلًا، فكه، حتى سقط منه خاتم مكتوب عليه اسم والدته.
إنه خاتم زواجهما.
لم تترك والدته المعاناة وحب الوطن فقط، بل وثقت له ذكرياتها ليعيش بحب.
همّ بإعادة الصندوق إلى مكانه، ليتذكر أنه لم يقرأ تلك القصاصة.
فجأة انقطع ضوء الكهرباء.
صرخ بحمق: “بئس هذه البلدة، وبئس الوطن!”
يبحث عن شمعة، ثم فتح نافذته المطلة على جاره:
– يا عبد الرحمن، يا عبد الرحمن، أرحمني وأعطني كبريتًا.
– (فتح جاره نافذة ورمى إليه “القدّاحة”) لا تعيدها إليّ، إنها الإحتياطية ، دعها معك، فيبدو أن البلاد هذه لن تحبّنا كما تحبّها، يا جار.
أغلق النافذة، بعد أن هبّت رياح اليأس لتزور غرفته، يأسٌ من وطن ظل صباح ومساءً يتغنى به، ويجازيه بالحرمان.
أشعل الشمعة، يقترب من الصندوق، وظل يبحث عن القصاصة، ها هي…ذا ليست قصاصة بل ورقة عريضة.
فتحها مندهشًا بكِبر حجمها، بدأ يقرأ بهمس:
“بسم الله يبدأ كل خير…
هذه الأرض، والمال، والعِرض، هي أرض والدي فلان بن فلان، التي ورثتها عن أبي وأجدادي.
أكتبها لك وصيا عليها.
فلتبْنِ بيتًا، وتروي جدرانه بالحب، كما سقى الوطن قلبي.
ترابها طاهر، كطهر العيون التي أراها الآن، ما زلت في الرابعة من عمرك.
سبحان من وهج استخدام هذا النور، ومن بعث فيك الروح، لتكون روحًا لي ولوالدتك
ولدي، حافظ على تراب وطنك، فلتحيا حياة هانئة…”
وفي نهاية المخطوطة ،مكتوب اسم الوصي، وموقع الأرض، وتوقيعه والديه.
لم تسقط دموعه.
يالها من عدالة ربانية:
أن يكون القلب رقاق لمشاعر الأمومة، فبشال أمه ذُرفت الدموع ،
وأن له أن يتراقص القلب فرحًا في النهاية، بوصية والده .
عادت الكهرباء، لم يطفئ الشمعة، انتقل إلى الإنترنت مباشرة، وغيّّر حالته من:
“بائس وطن” → إلى “يقتات الأمل” .
أغلق “الواتساب” ببسمة.
انتقل إلى “اليوتيوب”، وفتح أغنية: “لمن كل هذه القناديل؟”
نفخة الشمعة، ومع زفرة نفخة…نفخ يأسه معه
عاد إلى صفحة “الفيسبوك”، وضع منشورًا:
“من يملك أرضًا، لا ينسى تراب وطنه.”
وبات ينتظر الصباح… ليشدو بتراب أبيه ووطنه

شاهد أيضاً

ياريل جيم بحزن

ياريل جيم بحزن جاسم العبيدي الى روح الشاعر الكبير مظفر النواب الى اين ياخذك الريل …