أخبار عاجلة

سوانح ( بين سينية البحتري و شوقي ٠٠ !! )

سوانح

( بين سينية البحتري و شوقي ٠٠ !! )

بقلم / السعيد عبد العاطي مبارك الفايد – مصر
===========
ما أجمل أن نطوف سويا هنا في تلك السطور الرائعة بين ظلال شعرنا العربي عبر رحلة العصور و عبقرية المكان و نقرأ إبداع كل إنسان فهو للحياة مرآة و عنوان ٠
و فن المعارضات الشعرية له قبول حسن عند المتذوقين حينما تكون القصائد ذات مستوى راق لغة و بلاغة و صورة و إيقاعا و موضوعا و فكرا و وجدانا صادقا في هذه الحلبة هكذا ٠٠٠

نعم ان الحنين بين العصر القديم و العصر المعاصر الحديث يظل له رونقه ٠٠
و من ثم نجد في البداية قد عرف الشعر العربي المعارضة الشعرية قديما وحديثا كألون من المساجلات الشعرية منذ ان عارض الشعراء قصائدهم عند فرسان الشعر الثلاثة في النقائص الفرزدق وجرير و الأخطل ، و من دار في هذا المنوال حتى اليوم ٠
و نتوقف عزيزي القاريء الكريم في هذه السطور مع ( السينية ) للبحتري و شوقي ٠

يقول الشاعر العباسي البحتري في سينيته الخالدة في ديوان العرب :
صُـــنتُ نَفسى عَمّا يُدَنِّسُ نَفسى وَتَرَفَّعــــــــــتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ ٠

و يقول أمير الشعراء شوقي أحمد في سينيته :
وطنى لو شغلت بالخلد عنه نازعتى إليه فى الخلد نفسى

و هذا البيت ذائع الصيت و المشهور يلخص غرض تجربته الذاتية في الغربة بأرض أندلس، فيتذكر شوقا مصر و النيل و الهرم و الصبا و الشبات متحسرا على مانزل به من فراق لكل شيء جميل في وطنه المفدى ٠٠
و البيت الشعري ينتمى هنا إلى قصيدة شوقى المسماة بسينية شوقى، والتى مطلعها:
اخـــــتلاف النــــــهار والـــــليل ينسى اذكــــــرا لـــى الصبا وأيـــــام أنسى ٠

الموضوع و الغرض في سينيتهما هو ( الحنين ) و الشعور بالغربة في تصوير المشهد في جوهر القصيدة بكل ظلالها وعناصرها ٠٠
والذى يجمع بين الشاعرين أمر كبير يتجاوز فكرة الوزن والقافية واللغة والمعجم، فالذى يجمعهما هو “الحنين”، فالبحترى بعد مقتل الخليفة العباسى المتوكل الذى كان البحترى يمدحه وينتمى إليه، ولما كانت علاقته بالمنتصر بالله “الابن” غير جيدة ومتوترة لما كان يحسه البحترى من خيانة قام بها الابن أدت لمقتل الأب، حينها حمل البحترى رحاله إلى مدينة “المدائن” فى بلاد فارس، فلما دخلها البحترى الشاعر تذكر دورها القديم عندما كانت عاصمة الفرس ذات يوم، وكيف كان إيوان كسرى يحتل مكانة القلب منها، ورأى بقايا رسوم جميلة على جدرانها تصف معركة “أنطاكية” التى دارت بين الروم والفرس، كل ذلك أثار فى نفس البحترى حب الوصف والشجن.

* بينما شوقي يرى الآتي :
كان شوقى شاعر القصر المدلل ثم بعد النفي أصبح شاعر الشعب و كتب أجمل شعره الديني و الوطني و الاجتماعي فتحول إلى شاعر فحل بل أمير شعر معاصر بجانب المتنبي الشاعر الكبير فقد عبر أحمد شوقي عن الأحلام و الآلام و من ثم يأخذ شعره منحنى آخر ٠٠
وهو فى أوج وجوده فقد منحته ربة الشعر هذا الخلود على الساحة الشعرية و النافذة الثقافية ٠
وكل هذا قد تبلور في تجربته الذاتية بعناصرها و خصائصها الفنية في إطار عملية الإبداع و التذوق ٠٠
بداية من نفيه لإسبانيا أرض الاندلس المفقود عام 1915 م نظرا لعلاقته الشديدة بالخديو عباس حلمى الثانى، وظن الإنجليز أنهم بنفيه سيبعدونه عن مصر ليعاقبوه، لكنهم فجروا بهذا النفى سيلا من الشعر و”الحنين” .. وعندما وطئت قدما “شوقى” أرض الأندلس – إسبانيا ورأى آثار الحضارة العربية المتبقية التى كانت تدل على عظمة وفن العرب البنائين الذين كانوا يشكلون حضارة العالم حينهاأصابه الحنين تجاه مصر ، فصاح:
يا ابنة اليم ما أبوك بخيل ماله مولع بمنع وحبس

إنه “الحنين” الذى يمسك بزمام الشاعر ويحركه ناحية التفاصيل التى تشكل القصيدة، حتى إذا ما اكتملت فى داخله بشعور صادق جاءت دفقة واحدة للفكرة و الموضوع معا ٠٠
و لمَ لا فالقصيدة ممتلئة بالعاطفة والصدق و حتى اليوم كل مسافر وغريب ووحيد و كل من يعاني من غربة ذات أو طن يردد أبياتها في تلقائية وعفوية فيشعر بالراحة فهي بمثابة مرآة تعكس ما بداخل الإنسان في وعي حقيقي ٠
و على أية حال نتابع تلك ( الموازنة ) بين شوقي و البحتري :
فقد عارض سينيته في وصف إيوان كسرى بقصيدة سينية وصف بها قصر الحمراء. ولهاتين القصيدتين قيمة كبيرة، ومن الخير أن نوازن بينهما موازنة دقيقة؛ ليقف القارئ على ما فيهما من براعة الوصف وحسن البيان.
ولنذكر أولًا أن شوقي يتأثر البحتري منذ زمن بعيد، ويود لو ظفر شعره بتلك الديباجة البحترية، التي ضربت بها الأمثال.
و عن بلد ( منبج ) الذي ظل عالق بفؤاد البحتري فكان مفتاح الانطلاقة لهذه القصيدة ، لندرك معا هنا بعض السر في رقة البحتري، وجمال شعره، فإن للبلد الطيب الهواء، العذب الماء، القليل الأدواء، أثرًا كبيرًا في تكوين نفس الشاعر، والكاتب، والخطيب و الفنان و السياسي و الرياضي هلم جرا ٠٠
ولأن البحتري كان كثير الحنين إلى منبج، وكان كثيرًا ما يشيد بها في شعره ٠
و يلخص البحتري لنا شاعريته و تأثره:
حيث قال البحتري:
كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة، تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم. واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رشيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق ٠

و من الحوادث و الوجدان و الوطن الرمز كان المدخل في وصف ملامح شخصيتهما على النحو التالي :
وإذا ذكرنا عادة البحتري وشوقي في قرض الشعر، فلنذكر كذلك أنهما يشتركان في العناية بالآداب العربية، فقد ترك البحتري كتابًا سماه «معاني الشعر» ، وترك كتابًا آخر في الحماسة كالذي تركه أبو تمام ولكنه يمتاز عنه بسهولة اللغة وتنوع الموضوعات.
وشوقي — وإن لم يصنف كتبًا في الآداب — يقرأ ويدرس بشراهة تفوق الوصف، ويتعقب الحركة الأدبية بنشاط عجيب.
ويختلفان في إنشاد الشعر والإشادة به، فقد كان البحتري يحتفي بإنشاد شعره، ويسلك في ذلك مسلك التلحين والتطريب، كان يطيل النظر في وجوه الحاضرين؛ ليرى مبلغ إعجابهم به، وإكبارهم له، حتى نفر الناس منه، وعبث به أهل السفه، وأصحاب المجون. أما شوقي:
فقلما يتحدث عن شعره، وقلما ينشده، وإنما يوكل بإنشاده من يتوسم فيه حسن الفهم وحسن الأداء. وهذا المسلك، مع ما فيه من دلائل الحياء أو الشمم، غير مأمون العواقب، وكثيرًا ما آذى الشاعر، وعاد عليه بالضرر البليغ.
يقول شوقي في سينيته :
يا ابنة اليم، ما أبـوك بـخيل … ماله مولعاً بمنع وحبس
أحرام على بلابـله الدوح … حلال للطير من كل جنس؟
كل دار أحق بالأهل إلا … في خبيث من المذاهب رجس
نفسي مرجل، وقلبي شراع … بهما في الدموع سيري وأرسي
واجعلي وجهك (الفنار) ومجراك … يـد (الثغر) بـين (رمل) و(مكس)
وطـني لو شغلت بالخلد عنه … نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهـفا بالفؤاد في سلسبيل … ظمأ للسواد مـن (عين شمس)
شهد الله لم يغب عن جـفوني … شخصه ساعة ولم يخل حسي
يا فؤادي لكل أمر قرار … فيه يبدو وينجلي بعد لبس
عقلت لجة الأمور عقولاً … طالت الحوت طول سبح وغس
غرقت حيث لا يصاح بطاف … أو غريق، ولا يصاخ لحس
فلـك يكسف الشموس نـهـاراً … ويسوم البدور ليلة وكس
ومواقيت للأمور إذا ما … بلغتها الأمور صارت لعكس
دول كالرجال مرتهنـات … بقيام من الجدود وتعس
وليال من كل ذات سوار … لطمت كل رب (روم) و(فرس)
سددت بالهلال قوساً وسلت … خنجراً ينفذان من كل ترس
حكمت في القرون (خوفو) و(دارا) … وعفت (وائلاً) وألوت (بعبس)
أين (مروان) في المشارق عرش … أموي وفي الـمغارب كرسي؟
سقمت شمسهم فرد عليها … نورها كل ثاقب الرأي نطس
ثم غابت وكل شمس سوى هاتيك … تبلى، وتنطوي تحت رمس
وعظ (البحتري) إيـوان (كسرى) … شفتني القصور من (عبد شمس)
رب ليل سريت والبرق طرفي … وبساط طويت والريح عنسي
أنظم الشرق في (الجزيرة) بالغرب … وأطوي البلاد حزنـاً لدهس
في ديار من الخلائف درس … ومـنار من الطوائف طمس
وربى كالجنان في كنف الزيتون … خضر، وفي ذرا الكرم طلس
لم يرعـني سوى ثرى قرطبي … لمست فيه عبرة الدهر خمسي
يا وقى الله ما أصبح منه … وسقى صفوت الحيا ما أمسي
قرية لا تعد في الأرض كنت … تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت … لجة الروم من شراع وقلس
ركب الدهر خاطري في ثراها … فأتى ذلك الحمى بــعد حدس
فتجلت لي القصور ومن فيها … من العز في منازل قعس
سنة من كرى وطيف أمـان … وصحا القلب مـن ضلال وهجس
وإذا الدار ما بها من أنيس … وإذا القوم ما لهم من محس
ورقيق من البيوت عتيق … جاوز الألف غير مذموم حرس

أثر من (محمد) وتراث … صار (للروح) ذي الولاء الأمس
بلغ النجم ذروة وتناهى … بين (ثهلان) في الأساس و(قدس)
مرمر تسبح النواظر فيه … ويطول المدى عليها فترسي
وسوار كأنها في استواء … ألفات الوزير في عرض طرس
فترة الدهر قد كست سطريها … ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
ويحها كم تزينت لعليم … واحد الدهر واستعدت لخمس
وكأن الرفيف في مسرح العين … ملاء مدنرات الدمقس
ومكان الكتاب يغريك رياً … ورده غائباً فتدنو للمس
صنعة (الداخل) المبارك في … الغرب وآل له ميامين شمس
من (لحمراء) جللت بغبار … الدهر كالجرح بين بـرء ونكس
كسنا البرق لو محا الضوء لحظاً … لمحتها العيون من طول قبس
حصن (غرناطة) ودار بني الأحمر … من غافل ويقظان ندس
جلل الثلج دونها رأس (شيرى) … فبدا منه في عـصائب برس
سرمد شيبه، ولم أر شيئاً … قبله يـرجى البقاء وينسي
مشت الحادثات في غرف (الحمراء) … مشي النعي في دار عرس
هتكت عزة الحجاب وفضت … سدة الباب من سمير وأنسي
عرصات تخلت الخيل عنها … واستراحت من احتراس وعس
ومغان على الليالي وضاء … لم تجد للعشي تكرار مس
لا ترى غير وافدين على التاريخ … ساعين في خشوع ونكس
نقلوا الطـرف في نضارة آس … من نقوش، وفي عصارة ورس
وقباب من لازورد وتبر … كالربى الشم بين ظل وشمس ٠
٠٠٠٠٠

و في نهاية المطاف نتمنى أن نكون قد حققنا الهدف المنشود من وراء هذا القصد النبيل ٠٠
مع الوعد بلقاء آخر في سانحة تفتح لنا مسار جمال الإبداع الفني دائما ٠
إن شاء الله ٠

شاهد أيضاً

عايز ترتاح في دنيتك اعمل اللي عليك

عايز ترتاح في دنيتك اعمل اللي عليك عايز ترتاح في دنيتك اعمل اللي عليك وياريت …