الحروب الدينية
الأستاذ الدكتور – عبد العظيم أحمد عبد العظيم
أستاذ جغرافية الأديان- قسم الجغرافيا كلية الآداب – جامعة دمنهور- مصر
بعد اشتعال أوار #الحرب بين أهل #غزة المستضعفين والدولة #الصهيونية #الإمبريالية يوم السابع من أكتوبر 2023 طلب كثير من الأصدقاء أن أكتب أو أسجل فيديوهات عن هذه المسألة؛ فآثرت أن لا يكون الحديث عن غزة فقط بل أن تكون المقالات أكثر عمقا من الناحية الزمكانية والناحية الجيوسياسية والفقهية، وبخاصة أن تاريخ الإسلام ملئ بمثل تلك الحروب فيقف القارئ على أسباب كل حرب وأحداثها ونتائجها، وإلا فبدون ذلك يكون الحديث عن أحداث الساعة فقط مبتوا قليل النفع.. ومن ثم سوف تأتيكم المقالات تترى، كل واحد منها مستقل بفكرته، والمقالات جميعها يربطها عِقد واحد هو عٍقد #الحروب #الدينية.
وهذا هو المقال الأول بعنوان : مدخل لمفهوم الحرب الدينية وبايتها التاريخية:
الدين فطرة إنسانية من لدن آدم إلى قيام الساعة، والذي يدعي أن الأديان ثلاثة فقط غير مصيب، وأشد منه بعدا عن الصواب من يقول إن الدين واحد فقط وغيره لا يطلق عليه “دين”، وهذا مخالف لعدة نصوص قرآنية ؛ منها قوله تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء-171) فسمى معتقدهم (دينا) رغم التحذير الوارد لهم لغلوهم في دينهم في كل الآيات القرآنية التي تتحدث عنهم -وبخاصة اليهود. ومن تلك النصوص قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (آل عمران-24) فقد وصف معتقدهم بأنه “دينهم”.
وفي سورة #الأعراف يجري حوار بين أهل الحق وأهل الباطل، وهذا طرف منه: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً (الأعراف-51) فوصف أهل النار بالكافرين لم يتعارض وصف كفرهم بأنه (دِينَهُمْ).
وحسم سبحانه وتعالى وصف المعتقدات جميعها بأنها “دين” -سواء أهل الكتاب أو المعتقدات الوضعية- بقوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكفرون-6)، والمقصود بالديانات الوضعية: بقية الديانات غير اليهودية والنصرانية والإسلام. والأديان بهذا المفهوم لا نستطيع حصرها زمانيا ولا مكانيا.
واعلم أن أحبار كل ملة –بلا استثناء واحد- يزينون لأتباعهم مئات النصوص التي تشير إلى صحة تلك الملة، وأن غيرها من الملل باطل، وأن النجاة يوم الحساب لأتباع ملتهم فقط، مع اختلاف صورة “يوم الحساب” في كل ملة”، ومن أدلة ما أقول قوله تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (غافر -26) والسبب في ذلك التعبير الفرعوني الدقيق أن لا يستشعر أفراد الشعب أنهم يدافع عن ملك، وإلا لقالوا في أنفسهم: فليدافع الملك عن مملكته، أما الشروع في قتل موسى فهو يحتاج إلى نزع التعاطف من قلوب الناس، وأن تميل قلوبهم وعقولهم وأجسادهم إلى إلى “تأييد الملك”، أقصد “تأييد الإله” الذي يعرفونه، فقد قال عن نفسه (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) (#النازعات-24)، فالعاطفة الدينية الوارد في تعبيره الدقيق جذبت إليه عشرات الآلاف المؤيدين لقتل موسى.
ورغم اعتراف القرآن بحرية المعتقد بالنسبة لأحكام الدنيا، فقد جعل حساب المخالفين من اختصاصه هو سبحانه وتعالى، حتى الرسل ما ينبغى لهم محاسبة الناس، لأن حساب البشر للبشر –والرسل من البشر- هو حساب على أفعال الظاهر، والإيمان لا علاقة له بالظاهر إلا في القليل من العبادات، أما أصل العبادات فمتعلق بالقلوب الذي لا يعلم البشر ما فيها، بل لا يعلمها إلا خالقها، قال تعالى (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (الرعد-40) ولكن للأسف انشغل الناس بحساب الناس، ونسوا حساب أنفسنا، فما فهموا نص سورة الرعد وما ساروا على سَنَن الرسل.
ورد في صحيح مسلم برقم 287 عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِى نَفْسِى مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ. قَالَ « أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ ». فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. قَالَ فَقَالَ سَعْدٌ بن مالك وَأَنَا وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْن -يَعْنِى أُسَامَةَ- قَالَ قَالَ رَجُلٌ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) فَقَالَ سَعْدٌ قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ. وسوف أشرح هذا الحديث في مقال مستقل –إن شاء الله- لأنه مدخل لتفسير الحروب الدينية بين المسلمين.
واعتبار كل الملل أديانا، وعدم إهلاك الخالق –سبحانه وتعالى- للذين يشركون به والذين ينكرون وجوده أصلا لا يعني أنهم يسيرون على الجادة، إذ أوضح الخالق سبحانه وتعالى أن كل من يحد عن رسالة الإسلام فهو على الباطل، قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (آل عمران-85) ، وأوضح سبحانه وتعالى حيثيات ذلك الحكم ؛ قال تعالى (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (آل عمران-83) فالإنسان الأضعف في الكون لا يُسلم للخالق، وكل المخلوقات التي نعرفها والتى لا نعرفها تسلم له!!!!
والحروب الدينية بدأت مع ظهور الرسل، الذين يريدون إخراج الناس من الظلمات إلى النور. ولكن الذين عاشوا في الظلمات آمادا بعيدة اعتادوا عليها، والجميع مستفيد منها؛ وبخاصة الأئمة الذين يغرسون في قلوب أتباعهم الرعب من المخالفة، فالمخالفة تؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة؛ ومن هنا تأتي الأوامر للأتباع بقتل حملة مشاعل النور الذين سيفسدون عليهم مكاسبهم وهيبتهم وقدسيتهم عند الناس (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (آل عمران-113)، وسرعان ما تتحول الحرب بين حامل مشعل النور والهائمين في الظلمات إلى حرب دينية بين أتباع النبي وحوارييه وبين أتباع الملة الأخرى، فتتحول المناظرة الدينية إلى حرب دينية، ربما انتصر فيها أهل الباطل في بعض الجولات، فيفتن المنتصرون فيتمادوا في باطلهم، ويفتن بعض المنهزمين فيرتدون عن دينهم، وما علم هؤلاء وأولئك (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر-51).
فإذا كانت الحرب الدينية قد بدأ تاريخها بقتل الأنبياء، فلا تتعجبن من قتل الأشراف والعظماء من أهل فلسطين في التاريخ الحديث ، ولا تتعجبن من مشهد الحرب الدينية في غزة.
وللحديث بقية.
وعلى الله قصد السبيل