زيارة التاريخ

قصة / الكاتب: عبده داود

زيارة التاريخ
20.10.2021
كنت أنا وعائلتي في زيارة سورية. سألني كاهن الضيعة كيف تعرفت على زوجتك؟
قلت: كنت في السابعة والعشرين من عمري، حينها كانت هوايتي ركوب الدراجة الهوائية، لأنها تشعرني بالفرح، أمتطيها وأعبر البساتين، أتنسم الهواء النقي، وأتنشق أريج الزهور وخاصة في الربيع عندما يكون الطقس جميلا، وأزهار المشمش تزين البساتين وتعطر الأجواء، أشعر بان الحياة عادت من جديد بعد شهور البرد الجارح…

 

ذلك اليوم، قررت الوصول إلى مغارة كانت مسكن للإنسان القديم في مدينة يبرود. كنت أنوي زيارتها منذ كنت طالباً في الجامعة. تفاجأت بمجموعة سواح أجانب يزورون المغارة…شابين وأربع صبايا.
تكلمنا بالإنكليزية المكسرة، وعرفت منهم بأنهم وافدون من الدانمارك.

أفرحهم جداً كوني خريج كلية التاريخ. لأنهم هم أيضاً طلاب جامعيون في كلية التاريخ القديم…
قالوا جئنا نزور التاريخ، على أرض التاريخ، وهذه إحدى المغارات التي قطنها الإنسان القديم قبل أن يولد التاريخ…

تحادثنا كثيراً، وأفرحهم كثيرا إنني من النبك لأنهم ينوون زيارة دير مار موسى الحبشي في النبك، وهو من ضمن مخطط زياراتهم.

استضفت المجموعة في منزلنا في النبك، وأقمنا لهم حفل عشاء، ورحب اهلي بهم أي ترحيب، وأحيينا لهم سهرة لطيفة حضرها أصدقائي والجيران…

في اليوم التالي أخذت الطلاب واريتهم ما أشاده الدانماركيون في النبك في اربعينيات القرن الماضي ومنها الكنيسة الإنجيلية، والمستشفى الدانماركي. ومدرسة…
بعدها ذهبنا إلى دير مار موسى الحبشي والذي يعود تاريخه إلى ما قبل القرن الرابع… الكائن على جبل النبك الشرقي.

فرح الطلبة عندما وجدوا أنفسهم يزورون واحداً من أقدم الأديرة في العالم، كذلك أسعدهم كثيراً بان الدير قدم لهم الإقامة النظيفة والمريحة مع الطعام الشهي، وكل ذلك مجاناً…

أخذ الطلبة ينهلون من المعلومات الصحيحة والكاملة عن مكتبة الدير والموثقة بالصور والمخطوطات والكتب التاريخية التي أتعبها الزمن.

أنا جعلت من ذاتي دليلاً لهم نتنقل في منطقة القلمون، زرنا عدداً من الاديرة الموجودة في المنطقة، ومنها دير مار اليان في القريتين، ودير مار يعقوب المقطع في قارة، والكنيسة القديمة في يبرود، وكنائس معلولا الغارقة في القدم، وكنائس صيدنايا والمعرة، وأيضاً زرنا دمشق أقدم مدينة في التاريخ…

وجميع هذه الكنائس والأديرة قريبة بالمكان من بعضها البعض مما يدل على كثافة الوجود المسيحي في هذه المناطق…كانوا بغاية السعادة لأنني اساعدهم في توثيق بحوثهم.

استكمل الطلبة دراستهم في سورية، قرروا متابعة الرحلة إلى الأردن وفلسطين، لمتابعة مخططهم الدراسي.

حمل الطلبة حقائبهم على ظهورهم، وتم الوداع الحار بينهم وبين رهبان دير مار موسى الحبشي، وبينما كانوا ينزلون من أعلى الجبل على الدرج الحجري الطويل ليصلوا إلى سيارتهم في الوادي.
كانت الدموع تملأ عيني نينا وهي مغادرة الدير الذي أحبته لدرجة العشق.

بينما كانت تنزل، وتعاود النظر إلى الخلف وتلتقط الصور للدير، تفركشت بحجر، ووقعت وتدحرجت عدة درجات، وعجزت على النهوض، وهي تصرخ من الألم…ساعدناها وحملناها إلى السيارة وذهبنا جميعنا إلى مشفى القلمون. (مستشفى الدانماركي سابقاً). أظهرت صور الاشعة كسوراً في ساقها مما توجب اجراء عمل جراحي لها، وتلبيس الساق بقالب من الجبصين الصلب…

 

قال الطبيب يجب أن ترتاح نينا لمدة شهر على الأقل بدون حراك وتحت مراقبتي.
أصاب المجموعة الهستيريا كيف سيتركون نينا في النبك ووقتهم لا يسمح لهم، وعليهم إنجاز مهمتهم الدراسية، ووقت الرحلة كاد أن ينفذ ومن الذي سيبقى معها في سورية، ألف سؤال وسؤال، ولا جواب واحد…

قالت أمي، اذهبوا أنتم، نينا ستبقى عندي في البيت معززة مكرمة وبعدما يسمح لها الطبيب بالسفر، سنوصلها نحن إلى المطار أرجو ألا تحملوا هماً على الاطلاق…

تابع زملاء نينا رحلتهم، وحملت سيارة الإسعاف نينا إلى بيتنا.

خصصنا غرفة خاصة لها، ووضعنا جهاز تلفاز في غرفتها، ووفرنا خط انترنيت مفتوح لتتواصل مع أهلها، ومع جامعتها ومع زملائها…

نينا غير إنها في غاية الجمال كانت بمنتهى الرقة واللطف وجميعنا احببناها كثيراً.
لا أخفاكم أصدقائي، بأنني بذلت كل طاقتي لإسعاد نينا، ومتابعة الدراسة معها واحضار المراجع الخاصة لأبحاثها التي تطلبها، وحتى التي لا تطلبها…

كانت نينا تصورني وتصور أهلي بموبايلها وترسل الصور إلى أهلها في الدانمارك، وتطمئنهم عن حالتها، وكم هي سعيدة مع هذه العائلة الطيبة ، أهل نينا شكرونا كثيراً لأن ابنتهم عندنا.

أرسلوا لنا مبلغاً كبيراً من المال هدية لقاء استضافة ابنتهم.
الحقيقة لم تكن الهدية منتظرة ولا مطلوبة، رغم فقرنا آنذاك، لأننا كنا نعتبر الذي نفعله خدمة محبة وواجب إنساني علينا.

والد نينا أستاذ جامعي في كلية التاريخ في جامعة كوبنهاجن، طلب من أبنته أن تسألني إذا كنت أرغب في إتمام دراستي في الدانمارك، لأحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كوبنهاجن، ربما سيوفر لي بعثة مجانية لإتمام دراستي هناك.

بالنسبة لي كان هذا مجرد حلم لا أتجاسر حتى أن أحلم به…طار صوابي بهذه الخبرية، وبسرعة البرق ترجمت أوراقي الثبوتية وأرسلتها إلى أبو نينا.

شفيت نينا تماماً، ودعناها في المطار ودموعنا جميعا باحت بحبنا لها… تحقق قبولي في جامعة كوبنهاغن. أنا سافرت ودموع أهلي أبت أن تجف…رغم سعادتهم لسعادتي.

استقبلتني نينا وأهلها، وأحست بأنهم يحملون لي الكثير من الود، وخاصة نينا كانت عواطفها تفور في عينيها.

انا بدأت دراسة لغة الدانمارك، ونينا تابعت معي ما فاتها من دراسة في بلادنا…
جاء موعد مشروع تخرج نينا في الجامعة، نجحت وهنأت اللجنة الفاحصة نينا، وقالوا لها تستحقين نيل الإجازة على هذه الدراسة المتقنة الشاملة والموثقة. تستحقين إجازة الليسانس بالتاريخ بجدارة.

قالت نينا، أشكر اللجنة، وأشكر كل من ساعدني على إتمام دراستي، وأخص بالذكر صديقي وأستاذي كمال السوري، وأشارت لي، وطلبت مني الحضور لأقف بجانبها على المنصة وقالت: هذا هو سر نجاحي، كمال هو الذي يستحق الشهادة، وروت لهم قصة وجودها في سورية…بل في الحقيقة قصة حبها الذي خبأته في قلبها…لأنها خافت أن تعذبني إذا لم أتمكن من اللحاق بها.
أخذ كمال مكبر الصوت وقال بلغة مكسرة، أنا احبك يا نينا، أنا أحببتك، مذ رأيتك، واتمنى ان تقبلي أن أهديك قلبي.

قالت: قلبك سيجعلني أسعد انسانة في الوجود… لكن قلبي لم أعد أملكه، أنتم من خطفتموه مني، أنت وأهلك في سورية…أنا الآن أهبك كل حياتي يا كمال، أنا عرفت الحب الحقيقي في بلادكم… عرفت الحب هو العطاء بدون مقابل… أنتم علمتموني الحب الحقيقي..

وقف جميع الحاضرين يصفقون، ويهتفون، مبارك نينا، مبارك كمال…تزوجنا وأنا تابعت دراستي ونلت شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأدنى والأوسط. وصرت أستاذ جامعي بالتاريخ القديم في كوبنهاغن.

كانت سعادتي ستكتمل، لو أهلي قبلوا السكن معنا في الدانمارك. لكن والدي يقول، أرضي حبيبتي مستحيل أن اتركها.

أولادنا في المدارس، ونينا تحضر لنيل شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق القديم. ونحن نزور سورية. نينا تحب ذلك.

شاهد أيضاً

كف الضياء

كف الضياء …………. بخل الزمان ينهي الجفاء ويسعد الفؤاد نور الرجاء اراك تمزق ثوب النقاء …