راقصة الفلامينكو
الجزء الثاني
دعونا نعود إلى ديانا ونرى ماذا فعلت.
ديانا انتظرت حتى تعمق نوم مسعد، سحبت ذاتها من السرير بمنتهى الحذر، ارتدت ملابسها بهدوء، ونزلت إلى المطعم، وملأت ترمس قهوتها، وكتبت تلك الرسالة بكلمة واحدة (أحبك)، وقادت سيارتها، وركبت طريق سلمنكا وانطلقت…كانت الشمس لا تزال نائمة.
أحداث أمس كانت تدور في رأسها… ودموعها تسيل، ولم تعد تستطع الرؤية، وقالت عندما يهطل المطر استعين بماسح الزجاج، لكن الآن بماذا استعين، دموعي تمنعني من الرؤية…
كانت تتساءل كيف حدث كل هذا في يوم واحد، صار عمري خمس وثلاثين عاماً، وأنا أبحث عن حبيب يملأ كياني، ولم أجده، وفجأة يظهر أمامي رجل غريب عني، وعن بلدي، وعن حياتي، أحببته بكل جوارحي، وتمنيت أن أبقى معه طيلة العمر…لأول مرة شعرت بالنار تشتعل في كياني، وأحسست بأن قلبي سرقه هذا السوري. سلمته ذاتي، واهديته روحي، وكامل كياني…
ما هذا الحب المجنون الهستيري الذي اصابني…
أهو الشراب الكثير الذي كنا نحتسيه أمس في كل مكان حتى انتشينا وفقدنا صوابية العقل…
تركت دموعها تهطل وهي تقول: ربما الدموع تغسل خطيئتي…خطيئتي عظيمة يا رب. خطيئتي عظيمة جدا…
الشمس بشرت بالظهور، لمحت كنيسة في قرية توقفت بجانبها ودخلتها. وركعت تحت تمثال العذراء تطلب مسامحتها على تسرعها في هذا الحب المجنون الخاطف…
شعرت بأنها مرهقة غير قادرة على المتابعة…
خرجت من الكنيسة وجلست في الشمس لأنها شعرت بالقشعريرة، وسكبت لذاتها بعض القهوة، ربما تستعيد بعض نشاطها، لا بد لها من المتابعة لأنها على موعد مع الوفد الفرنسي.
تمنت أن تعود إلى مدريد، ربما حبيبها لا يزال نائما؟
حبيبي وكيف لي أن اسميه حبيبي…هي مجرد ساعات، تقابلنا بالطائرة، وأعجب هو بجمالي لدرجة سحرتني، ثم أقليته بسيارتي من المطار إلى الفندق، وسهرنا، ورقصنا، وشربنا، وانتشينا، وتسكعنا في شوارع مدريد وأحسست بانني مخطوفة في الروح، وأحسست بالحب الذي أبحث عنه، واستسلمت للعشق…
لكن يتوجب عليّ المتابعة عندي موعد الفرنسيين القادمين من باريس حتى يكتبوا عقد عمل لي ولفرقتي في باريس فرنسا، فرصة كبيرة كانت تنتظرها، والآن جاءت الفرصة، قالت: لو كانت الفرصة تخصني وحدي لعدت إلى مسعد في الحال لأعيش معه الحب، مسعد طرق بابي، وأنا فتحت له ذراعي وضممته استقبالا، ورغبة، واشتياقا…
لكن فرقتي ستخسر فرصة قد لا تعوض ثانية…
لذلك يجب أن أصل إلى مكتبي قبل وصول الفرنسيين…
وأقنعت ذاتها بأنها ستلاقي مسعد يوما، إذا قدر لها الله ذلك…
استقبلت فرقة الفلامينكو ديانا، واستغربوا حالها وعيناها الحمراوان، ودخلت إلى مكتبها بسرعة على غير عادتها، ولحقت بها صديقتها وسكرتيرتها المقربة ماريا، وسألتها ما بك يا ديانا، الحمد لله على سلامتك، ماذا حدث معك في روما؟
قالت ديانا أرجوك يا ماريا، لا تسأليني أي شيء الآن، سوف أستحم، وأحضر ذاتي، لقد اقترب موعد وصول الوفد الفرنسي…
استحمت واستلقت على سريرها وغرقت في النوم، واستيقظت عندما جاءت ماريا، وقالت لها لقد وصل الوفد الفرنسي…وهم في مكتب الإدارة.
تم الاتفاق مع الفرنسيين لتذهب ديانا وفرقتها المشهورة في رقص الفلامينكو إلى باريس. لكن بعد مدة شهر، حتى تنفذ عقدها في روما…
بعدما غادر الوفد الفرنسي، عادت ديانا إلى غرفتها وغرقت في النوم حتى ايقظتها ماريا في المساء وقالت: الفرقة تنتظر اوامرك…
ما بك يا ديانا؟
قالت ديانا: أنا عاشقة… أنا مغرمة… أن وقعت في الحب…
قالت ماريا: ماذا، ماذا؟ هذا كلام كبير وجديد. متى حصل كل هذا، ومن هذا المحظوظ أظنه إيطالي أليس كذلك؟
قالت ديانا: المحظوظة أنا، والتعيسة أيضا أنا…
حبيبي من سورية، سلبني عقلي وقلبي، وأنا مكسورة الخاطر لأن هذا السوري ذهب ولن أراه ثانية… هي ليلة واحدة وطار فيه صوابي، ليلة واحدة في مدريد رقصت فيها في نادي الفلامينكو، وكنت أخبط الأرض حتى رقصت الأرض تحت أقدامي، كنت منتشيه حباً، كنت أكتب بضربات قدمي قصيدة عشق إلى ذاك السوري… عبرت برقصتي عن حبي له… وكل اعجابي بهذا المجهول الذي التقيته في الطائرة، وعندما نزلنا من الطائرة، أنا بقيت محلقة في عالم بعيد غير عالمي… لأول مرة أصبحت عاشقة بهذا الشكل الجنوني، وعشت معه أجمل لحظات العمر…
تركته نائماً وغادرت الفندق. دون أن أطلب عنوانه أو أعطيه عنواني…
أنا لم أعد راغبة بالذهاب إلى روما أو إلى فرنسا، أريد الرجوع إلى مدريد والبحث عن هذا الذي سرق حياتي وأشل تفكيري…
لكن الذي يمنعني هو ما ذنب فرقتنا التي أنهكها التدريب، حتى أصبحت من الفرق الأولى بهذا الرقص التعبيري الغجري…
مؤلف القصة وكاتبها: عبده داود
إلى اللقاء بالجزء الثالث