أخبار عاجلة

حبّ وحرب

حب وحرب
قصة قصيرة 11.2021
سيارة لبنانية فخمة وقفت بجانب باب أبو عبود في ضيعتنا النبك، عرف أهل الحارة بأنه الدكتور جميل ابن ملكة جاء لزيارة خاله.
لا أحد في الضيعة يعرف الدكتور جميل. أمه منذ تزوجت إلى لبنان، أضحت زياراتها قليلة إلى سورية، وخاصة عندما كبر أولادها وصاروا في المدارس والجامعات.
ابنها جميل تخرج في كلية الطب في الجامعة اليسوعية وبعد تخرجه سرعان ما خطفته إحدى المستشفيات الكبيرة في بيروت.
جميل غير إنه دكتور ناجح، هو شاب خلوق، مهذب، لطيف المعشر، وسيم الشخصية، وهو ابن رجل اعمال ثري…
لذلك كانت الصبايا في بيروت ينصبن حوله شباك الحب العنكبوتية، كونه عريس تحلم به كل فتاة، شاب يصفونه في مجالسنا (بالعريس اللقطة)، وحيد لأهله، أختاه متزوجتان، وهو يعيش مع والديه في جبل لبنان في مدينة حريصا.
أمه ترفض بتاتاً السكن في بيروت، رغم إنهم يملكون دارا جميلة قريبة من البحر، كان يقطن فيها جميل اثناء دراسته ولا يزال يبات فيها أحياناً.
ملكة تقول: أنا لا أحب المدينة، أنا أحب حريصا، أحب أن أزور تمثال العذراء كل يوم، لأنه يشعرني بحرارة الصلاة، وأشعر بأن صمتي تسمعه السماء…
أنا عاشقة الريف، عاشقة شجر الصنوبر، عاشقة الشمس والقمر، أنا هنا في الجبل الأخضر أعيش حياتي، تدفئني الشمس، وتمتعني مشاهدة القمر، تبهجني انعكاسات السماء عندما تغطس الشمس في البحر… هذه متعتي، لن أذهب إلى بيروت أو إلى أي مدينة أخرى بالعالم…
رغم هذه السكينة التي تقطن قلب ملكة، كان هاجسها هو وحيدها، تريد أن يتزوج ويأتيها أحفادا منه، كانت تقول: أبناء جميل هم أحفادي الحقيقيين، هنا بيتهم، وهنا سيعيشون معي…أما أحفادي من بناتي ليسوا لي…
المشكلة جميل كان يرفض سيرة الزواج، لدرجة صار يمتعض عندما أحدهم يجلب له هذه السيرة،
عندما تحادثه أمه بالموضوع كان يقول: يا أمي، قلبي لا ينبض بعد، هو غافي في غيبوبة، لكن عندما يستيقظ سأتزوج.
أمه كانت تعرف بأن عشرات الصبايا يحمن حول ابنها، بينما هو ليس هنا… ولم يعر أي واحدة منهن كلمة استحسان ولا حتى كلمة مجاملة. كان يقول لذاته لعل قلبي متحجر العواطف…لا تسري فيه أحاسيس الحب.
كان منهمك في عمله أبان الحرب الأهلية التي دمرت لبنان، وامتلأت المستشفيات بالقتلى والجرحى، استنفر جميع أطباء لبنان ليل نهار في مستشفياتهم…
دكتور جميل كان يغفو على المقعد في المستشفى دقائق ويستيقظ وهم ينادونه طالبين منه الحضور إلى قسم الإسعاف…
كادت بيروت لا تعرف النوم آنذاك…ودوي القنابل في كل مكان، والدمار طال المنازل الآمنة…
لذلك تدخلت سورية وتوصلوا إلى هدنة هشة، لأن المستفيدين من الحرب لا يريدونها أن تخمد…وقسرا هدأت الأوضاع نسبياً تحت الضغط السوري، لكن ما فتئ عملاء الاستعمار يحاولون هدم الهدنة واشعال فتيل الحرب ثانية حتى اليوم.
صعد جميل إلى حريصا، وغلبه النوم أربعة وعشرين ساعة متواصلة.
قالت له أمه أتمنى لو تذهب تزور خالك في سورية، هناك ترتاح بعض الوقت وسوف تعود لعملك بحالة متجددة نشيطة…
كانت فرحة أبو عبود أخو ملكة لا توصف بزيارة ابن أخته…
جاء الأصدقاء والجيران يسلمون على الدكتور جميل. أحضر أبو عبود جرن القهوة الخشبي المصدف وأخذ يدق حبات القهوة المحمصة، بمدقة كبيرة عازفا الحاناً راقصة، جلبت أم عبود الدربكة، وقامت الصبايا على الرقص، واشتد الحماس وتحول الرقص الافرادي إلى دبكة، فاهتزت الأرض تحت اقدام الشباب ابتهاجاً…
لفت نظر جميل فتاة جميلة في السهرة كان يراقبها خفية. جميلة، هادئة، واثقة، فتساءل بذاته ماذا يعني هذا الإعجاب المفاجئ؟
قال أبو عبود جميعكم مدعوون صباح الغد لمساعدتي في قطاف العنب…والغذاء في المزرعة.
في الحقل، ذبح أبو عبود جدي، وأخذ يعمل على تهيئته للشوي، الشباب والصبايا انهمكوا في قطاف العنب وجمعه في السلال ليتم تغطيسه بمواد حافظة وسطحه ليتحول إلى زبيب ومن ثم إلى دبس
جميع الصبايا كن يختلقن أسبابا واهية ليحادثوا الدكتور ما عدا واحدة لم تفعل، كان هو ينتظر تلك الصبية بالذات لأنها لفتت نظره أمس…
عند وجبة الغذاء، جلس الدكتور جنب تلك الصبية وتحادثا، وعرف بانها تقرب أمه من بعيد، وعرف اسمها ليلى، كما عرف بأنها مدرسة اللغة الإنكليزية في ثانوية الضيعة.
لاحقا، جاءت ليلى وأهلها يسلمون على جميل رسمياً، كانت ليلى ترتدي ثوبا أزرق بسيطا، وتضع حمرة شفاه لطيفة زاد في اشراقها، حينها قال جميل: ربما هذه هي فتاة أحلامي التي حركت قلبي الغافي…
دارت أحاديث طويلة بينهما، وعندما أضحيا لوحدهما، فتح قلبه وقال أرجوك اسمحي لي أن أبوح بما يقوله قلبي: لأول مرة أحس بأن قلبي ينبض، كنت متصوراً بأنني بلا قلب… لأول مرة أحس بأنني اشتاق لإحداهن، لأول مرة أكون سعيداً برفقة صبية جميلة، لأول مرة لم أنم وبذهني صورة فتاة أشتاق لها… لأول مرة أساهر القمر، وأراه جميلا…
ضحكت ليلى وقالت مازحة القمر جميل، هو يشبهك…
مضى أسبوع، والدكتور جميل وليلى يلتقيان…وحبهما يكبر ويتوهج…
أخيرا ذهب أبو عبود والدكتور جميل يزوران أهل ليلى…وكانت ليلى تعرف سبب الزيارة وقلبها يكاد يطير من مكانه…
بينما هم يحتسون القهوة، رن موبايل الدكتور. كانت امه تسأله متى ستعود لأنهم في المستشفى لا ينفكون يسألون عنك؟
أخذ الموبايل أبو عبود وقال لأخته، أختي: جميل لن يعود الآن، تعالوا جميعكم، واجلبوا صيغة العروس لقد استيقظ قلب جميل…
كتب القصة: عبده داود

شاهد أيضاً

رواية رائحة العندليب حوار أدبي || مع الروائي السعودي عبدالعزيز آل زايد

رواية رائحة العندليب حوار أدبي || مع الروائي السعودي عبدالعزيز آل زايد حوار: د.هناء الصاحب …