جدالات الاستشراق على الساحة الثقافية العربية
د.أيمن دراوشة
أولًا: مفهوم الاستشراق
تعني لفظة الاستشراق التوجه صوب الشرق، ولغة هي مصوغة على وزن استفعال، وفي المعجم الوسيط جاءت بمعنى طلعت، ” شرقت الشمس شرقاً وشروقاً إذا طلعت “. (1) وأطلق الاستشراق على كل ما يتعلق بالشرقيين من ثقافة وتاريخ…وهو تيار فكري غربي اتجه لدراسة الشرق الإسلامي أولا قبل أن يتوسع لدراسة الشرق كله ( إيران، الصين، الهند،…) دراسة شاملة للأديان واللغات والثقافة والآداب والتاريخ. وأسهم هذا التيار بقوة في صياغة التصورات الغربية حول الشرق كافة، والعرب والمسلمين خاصة.
والمعروف في اللغة العربية إن إضافة السين والتاء إلى الكلمة يقصد به الطلب، فيصبح معنى كلمة الاستشراق طلب علوم وآداب الشرق.
وفي موقع ويكيبيديا عرّف بأنه: ” دراسة كافّة البنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربية. وتستخدم كلمة الاستشراق أيضاً لتدليل تقليد أو تصوير جانب من الحضارات الشرقية لدى الرواة والفنانين في الغرب. المعنى الأخير هو معنى مهمل ونادر استخدامه، والاستخدام الأغلب هو دراسة الشرق في العصر الاستعماري ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر. لذلك صارت كلمة الاستشراق تدل على المفهوم السلبي وتنطوي على التفاسير المضرّة والقديمة للحضارات الشرقية والناس الشرقيين. وجهة النظر هذه مبيَّنة في كتاب إدوارد سعيد الاستشراق “. (2)
فالاستشراق عند إدوارد سعيد هو ” الفرع من فروع المعرفة الذي تناول به الشرق (وبه يُتناول) بطريقة منتظمة، من حيث هو موضوع للتعلم، والاكتشاف، والتطبيق “. (3)
كما استخدم المصطلح ” لتخصيص تلك المجموعة من الأحلام، والصور، والمفردات المتوفرة لكل من حاول أن يتحدث عما يقع شرق الخط الفاصل. وهذان البعدان للاستشراق ليسا غير متطابقين، لأن أوروبا، باستخدامهما معا، استطاعت أن تزحف على الشرق، بأمانٍ غير مجازي “. (4)
إنَّ النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر كان لها تأثيرها على مختلف المجالات، فأقيمت الجامعات والمؤسسات العلمية والجمعيات…لذا يقول المستشرق مكسيم رودنسون وهو من أشهر المستشرقيين الفرنسيين، ومعروف في عالمنا العربي نظرا لترجمة معظم كتبه إلى اللغة العربية: إنه لم يدهش إن كلمة مستشرق ظهرت في اللغة الإنجليزية حوالي عام 1779م، وفي قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م، ” ولا أن نلتقي الشعور نفسه المعبّر عنه في تلك الفترة مرات عديدة، فمثلاً نجد ذلك لدى فيكتور هيغو في مقدمته لـ “الشرقيات” الصادرة عام 1829. وهو كتاب يُفتتح بثلاثة أبيات للشاعر الفارسي سعدي “. (5)
ثانيًا : منطق العلاقة بين العقل العربي والعقل الأوروبي
يقول عبد لأمير الأعسم انه ظهر على الساحة الثقافية نوعان من التحريف في القرون 14،15،16، ويرى إن التحريف الأول هو:
إنَّ الأوروبين كانوا منبهرين بالشرق لما وصلهم من تراث عربي إسلامي، وما ورثوه من اخبار الحملات الصليبية على الشرق، وبدأت طلائع الاستشراق العقلي لعصر النهضة مع راموسيوس الإيطالي وكرستينوس البولندي، وهو العصر الذي شهد التطور والتجديد في الفنون والعلوم والآداب، ونحن هنا أمام سلطة جديدة للقراءات الأوروبية المختلفة للفنون والعلوم والآداب التي وصلت إلى اللاتين من العرب والمسلمين، بما يتلائم وحجم متغيرات عصر النهضة الأوروبي، ” وتبدل عقائده، ونمو واضطراد الأحكام التي حكمت الروح الأوروبية الجديدة، بصدورها متعصبّة أصلاً ضد العرب المسلمين تعبيراً جديداً عن فهم جديد للعداء الكامن بين المسيحية والإسلام، وبين اللاتين والعرب، وبين الشمال والجنوب! “. (6)
هذا الأمر سيؤدي نحو إنتاج مستشرقين سيعملون على التقليل من قيمة الدور العربي الإسلامي في تشيد بناء الحضارة في العصر الحديث.
أما الثاني: فهو تجاهل إنجازات العرب والمسلمين ” في أعمال العلماء والفلاسفة الذين برزوا في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر. كما لاحظنا أن من الفلاسفة والعلماء اللاتين من اقتبس نصوص الفلاسفة العرب، فانتحلها، عن قصد أو غير قصد “. (7) وهذ أدى إلى دخول لأفكار الفلاسفة العرب والمسلمين في عمق البناء الفلسفي والعلمي عنهم.
إنَّ علماء التأريخ لتواريخ الفلسفة، عملوا على التقليل والحط من شأن مؤثرات العقل العربي في تكوين العقل الأوروبي من خلال المرور عليهم مرورًا سريعًا لا يتناسب وحجم تأثيرهم في بناء الفلسفة والعلوم الأوروبية.
إنَّ العلماء والفلاسفة اللاتين الذي اقتبسوا بحرية من العرب والمسلمين، ” حفّزوا العلماء والفلاسفة الأوروبين في عصر النهضة على انتحال النصوص “. (8)
وليس صوابًا ما يذهب إليه الاستشراق ” إنَّ الفلاسفة اللاتين لم يقرأوا النصوص الفلسفية العربية إلا ليعدّلوها. وينقضوها، ويردّوها وينحوا إلى اتجاه مخالف لها “. (9)
إنَّ العلماء والفلاسفة المستشرقين قدموا لنا تحريف وتزيف للاتصال الفلسفي والعلمي العربي والعقل اللاتيني، ولا ريب إنَّ هذا الأمر نابع من النظرة الاستعلائية ونكران الجميل وتشويه متعمد لإسهامات العرب في تكوين العقل الأوروبي.
لقد أنجز المستشرقون العديد من البحوث والدراسات، واهتموا في الدراسات الإسلامية فدرسوا العقيدة وصوروا الإسلام منذ الرسول الكريم اعتمادًا على السير والتاريخ من تراثنا، فتناولوا القرآن الكريم في تفسيرات وتم ترجمته، وعملوا على نقده بقسوة وربطوا الكثير من الموضوعات القرآنية بالإسرائيليات، وهذا قادهم لدراسات التصوف والتشدد الديني والطائفي، واختلافات المذاهب. ودرسوا التاريخ العربي والإسلامي وعملوا على ” تقديم صور مختلفة اجتماعية وسياسية واقتصادية عن مجتمع الحضارة العربية الإسلامية، يكمن في الكثير منها تزوير لحقائق معروفة،…، أو تنكيل بالعرب المحدثين عندما يجدون تاريخهم نهبا للأطماع والحكام والأنظمة الفاسدة والأعاجم. لذلك، فدراساتهم التاريخية تقوم على تقسيمات جغرافية وإقليمية وعنصرية ومذهبية وطائفية، هيأت الظروف التي تتزامن مع نشوء النهضة العربية وابعاث الأمة العربية في العصر الحديث “. (10)
في محاولة لتفكيك وتشتيت الأمة العربية. كما درسوا اللغة العربية وأصولها وعلاقتها باللغات الأخرى، ودرسوا قواعدها وفقه اللغة، والعروض، وأخذ اللغة العربية واقتباسها من اللغات الأخرى. كما درسوا الأدباء والشعراء العرب من حيث جذورهم وعقائدهم والمؤثرات التي وقعت عليهم.
ثالثًا : أزمة الاستشراق من وجهة نظر المستشرقين
يعتبر مكسيم رودنسون أنَّ أزمة الاستشراق الحالية نابعة من إهمال المستشرقين التقليديين
( المتمسكين بالمنهجية الفيلوجية ) مثله لتطور العلوم الإنسانية، ويعزو ذلك إن الوقت قصير فوقت الباحث قصير وكذلك عمره.
كما يركز على مشكلة العرقية المركزية الأوروبية، ودخول الباحثين القوميين ابناء البلدان المبحوثة ميدان البحث العلمي، وهم على الأغلب يميلون إلى رمي انجازات الاستشراق لاعتقادهم إنه ملوث بالعرقية الأوروبية، ودافعه الأساسي الولوج إلى العالم العربي والإسلامي واستغلاله، ويدعم رأيهم النظرة السلبية لتراثهم وثقافتهم.
وهو لا يعترض على دخولهم معترك التوغل في ثقافتهم، كما لا ينفي حقهم في ” النضال من أجل الدفاع عن قيمهم ومصالحهم القومية “. (11)
ويعترض على أنَّ البعض من الباحثين القوميين ” يتجاوزن الحد في الاستخدام الإيديولوجي لأصولهم لكي يفرضوا أنفسهم كناطقين رسميين باسمها ولكي يفرضوا الصمت على مخالفيهم في الرأي موحين لهم بتهمة الوصم بالعنصرية كنوع من الابتزاز “. (12)
كون ذلك يضر بالعلم نفسه وحتى بالبلدان ذاتها أكثر ما يضر الغرب الأوروبي.
ويبدي مكسيم رودنسون اهتمامه ببعض الباحثين العرب، فيقول عن كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” إنه حقق نجاحًا باهرًا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأنه شكل صدمة نفسية للمستشرقين، فهو ساعد في تحديد إيديولوجيا الاستشراق الأوروبي، وخاصة الإنجليزي والفرنسي، لقد حدد الإيديولوجيا “من خلال تبلورها في القرنين التاسع عشر والعشرين وعلاقتها الجذرية بالأهداف السياسية والاقتصادية والأوروبية لتلك الفترة، ويأخذ عليه تأوله لبعض مؤلفات المستشرقين ويعزو ذلك لحساسية سعيد المفرطة اتجاه ردود أفعال المفكرين الأمريكيين والأوروبين، ويتفق مع سعيد في نقده اللاستشراق التقليدي، ويقول: عن الصدمة الذي أحدثها كتاب الاستشراق إنها ” مفيدة جداً إذا ما دفعت بالمختصين إلى إدراك أنهم ليسوا بريئين إلى الحد الذي يدعون أو حتى إلى الحد الذي يعتقدون. كما أنها ستكون مفيدة إذا ما دفعت بهم إلى محاولة أخذ الوعي بالأفكار العامة ( أو بالخلفيات المسبقة ) التي ينطلقون منها بشكل لا واع وإلى فرزها وتوجيه نظرة نقدية إليها “. (13)
من المفكرين العرب الذي أبدى رودنسون إعجابه بهم المفكر التونسي هشام جعيط الذي دعا إلى هضم الحداثة وفهمها، وأكد إن تبني الحداثة واستيعابها لن تكون ذات جدوى ولها قيمة إلا بالتأكيد على الهوية العربية. انشغل جعيط الذي ساهم بفاعلية بالنقاشات الفكرية المحتدمة على الساحة العربية بقضايا الحداثة والهوية والعلاقة مع الغرب، وكان له انجازات لا تخفى من خلال مؤلفاته، ككتاب ( الفتنة ) الذي تناول فيه جدلية العلاقة بين الدين والسياسة في مراحل الإسلام المبكرة، وكذلك كتابه المعروف ( الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي ) الذي ناقش فيه قضايا الهوية والنهضة.
وتتمحور أفكاره حول الهوية ” بوصفها إطارا يحدد الذات ويؤطرها في التاريخ الإنساني ويتجاوز الباحث جعيط الرؤيا المحافظة في فهمها للهوية، إنها ليست مجرد لكيان بمفهومه العرقي كما نلحظه لدي المفكرين الإسلاميين والقوميين، بل هي تجربة متعدد تتفاعل في التاريخ، وتتأثر بالواقع الإنسانية “. (14)
فالهوية لا يمكن لها الاكتمال والتقوقع داخل جدر، فهي ديناميكية قابلة للتحول والغنى.
وعلى الرغم من أنه يؤكد على الهوية والاتزام الحضاري إلا أنه يقطع أي صلة مع الفكر القومي العنصري والديني المحافظ. فهو يتعمق ويبحر في دهاليز التاريخ الإسلامي والشخصية الإسلامية، مفتشا عن رموز التنوير الين أغنوا الحضارة الإسلامية، إلى جانب عمله على تفكيك بنية الفكر الإسلامي مبينا تنقضاته ” ويقفز إلى قضايا الحداثة والعقلانية، ضمن مقاربة منسجمة، تستهدف فهم الذات والآخر بوعي تاريخاني، بعيداً عن الخطابات التبجيلية والإيديولوجية “. (15)
منبها أنه ابن الدين الإسلامي التقليدي حيث ولد ونشأ في حضنه، إلا أنه سيحارب بكل ضراوة حداثة قشورية لا تسمن ولا تغني من جوع.
فالفكر العربي الإسلامي تنازعه تياران أحدهما يريد الرجوع به إلى الأصول والنبع النقي والصافي، بما يلغي أي دور للعقل وحرية التفكير، وآخر يقاوم ويهاجم هذا التيار، ويطالب في الدخول إلى الحداثة الغربية دون قيود أو شروط، وانتهى به الحال إلى الاستلاب والاعجاب والاغتراب، وكلا التياران لم يستطعا قيادة الفكر العربي، إذ بقي يرواح مكانه بين تيارين متضادين.
ينطلق هشام جعيط في مؤلفاته من الكيفية التي تشكلت فيها صورة الإسلام في الفضاء الأوروبي، وما هي المرجعيات التاريخية التي تحكمت وهيمنة على هذه الصورة.
وينطلق من أنَّ أوروبا المسيحية القروسطية التي ولد فيها الاستشراق ” إنَّ رؤيتها لسيكولوجية الإسلام هي رؤية جامدة، أنماط إنسانية بسيطة وثابتة تنتصب أمام أعيننا: العربي، المسلم، البربري، التركي، ذوو وصفات ثابتة “. (16)
فالتصور للآخر العربي المسلم، تشكل منذ العداء للرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم ازداد في القرون الوسطى، وبلغ ذروته في الحروب والحملات الصليبية، وحتى زماننا الحالي، فعلى الرغم من التقدم العلمي والمعرفي الهائل إلا أن جذور العداء والصراع ما زالت تفعل فعلها.
وما زالت رؤية المثقفين والمفكرين والباحثيين الغربيين نحو العالم العربي والإسلامي تقع تحت ضوء الصور القروسطية، ففي ظل الاستعمار والاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية، تم إحياء الصور القديمة، وظهر الخوف من التعصب الإسلامي واللاعقلانية العربية، بل إن الحديث يدور إن العرب المسلمين يولدوا مضطربين وحتى إرهابيين. فحتى جان بول سارتر الذي يدعي إنه مثقف عضوي ملتزم بقضايا الحرية والكرامة والمساواة كان يعيش في ظل سجن الصور النمطية عن الإسلام والعرب، وكان موقفه من الهمجية الصهيونية ضد الشعوب العربية لافت ومثير للغثيان.
فماذا قال المستشرق مكسيم رودنسون عن كتاب هشام جعيط ( أوروبا والإسلام )؟
قال: إن هشام جعيط كاتب موهوب وواعي، عالج مشكلة الرؤية الأوروبية للعالم الإسلامي دون أن يتبنى وجهة النظر الدينية، ” إن تحليل هذين الكونين الثقافين والتاريخيين بحدّ ذاتهما يحتل أيضا مكانة كبيرة. إنه كتاب لامع وذكي جدا وثاقب يستعرض فيه المؤلف ثقافته الواسعة سواء كان ذلك في المجال العربي أم مجال التاريخ والفكر الأوروبي. إني أنصح بكل قوة بقراءته “. (17)
يتناول رودنسون أيضا في مقالة له في كتاب ( صعوبة الرؤية ) وهو كتاب مشترك نتج عن أعمال مؤتمرين في جامعة جوسيو في فرنسا بين عامي 1974م- 1975م، النقد الغربي للإسلام وإنه احتوى على الكثير من المغالطات، ولكن هذا لا يعني إن المجتمعات التي تعتنق الإسلام فوق النقد، ” فكل المجتمعات وكل الجماعات البشرية وكل الأنظمة الفكرية وكل قوانين السلوك لها ثغراتها وجوانبها الوسخة وميلها للسير في اتجاه خطر على الأقل فيما يخص بعض النقاط. ويمكن أن نجد في كل مكان أفرادا ضالين، خطرين، شريرين. لا شيء يضمن لنا الحماية ضد الانزلاق في وهدة الاتجاهات الفاسدة التي تصيب أي جهد للمعرفة أو الأخلاق “. (18)
لا شيء يحصننا من ذلك حتى العقيدة، فالعقيدة السمحة والسامية يمكن تحويلها وتأويلها لارتكاب أبشع الجرائم.
كما يتناول الكتاب صعوبة الاستشراق والعلاقة بين الغرب وبقية الشعوب أبان فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار.
وما سبق يحلينا للحديث عن العلاقة بين الاستشراق والسياسية، فكيف تشابكت العلاقة؟
رابعًا : إشكالية العلاقة بين الاستشراق والسياسية
ولا بد من الإشارة إنه لم يكن اهتمام ذا قيمة في مسألة الاستشراق طوال القرن العشرين، باستثناء مقالة أنور عبد الملك ( الاستشراق مأزوماً عام 1963م ) التي نشرها باللغة الإنجليزية في مجلة ديوجين، وترجمت بعد سنوات من قبل حسن قبيسي ونشرت في مجلة عالم الفكر في عدد خاص عن الاستشراق عام 1983م، وجاء كتاب سعيد ليحدث زلزال في الساحة الثقافية العربية، حتى إن كلمة الاستشراق أصبحت متداولة بكثيرة، من كثرة الندوات حوله، واهتمام وسائل الإعلام بالتعريف به. ولم يكن تأثيره في الشرق فقط، بل كان له هزات ارتدادية كثيرة في الثقافات الغربية، فأثار جدالات وسجالات في الكثير من المجلات الفكرية الأمريكية والأوروبية.
إنَّ فكر إدوارد سعيد حول الاستشراق استمده من منهج سوسيولوجيا المعرفة، وسعى سعيد بكل قوة إلى تفكيك أسس الاستشراق بصفته ناقد أدبي.
وجه سعيد سهامه إلى الأسس الأبستمولوجية والإيديولوجية التي من خلالها شكلت الصورة عن المجتمعات العربية والإسلامية، لذلك وجه انتقادته لمن جاء بتلك الصورة سواء كان من المستشرقيين أو طلابهم المثقفين الشرقيين. وتجاوز سعيد في انتقاده الجانب المعرفي إلى النقد اللاذع للمواقف السياسية.
يعتبر سعيد الاستشراق جهازًا ثقافيًّا ينحصر في العدوان وإصدار الأحكام، وعمله هو فرض “الحقائق”، والمعرفة. فالكثير من المستشرقين ” كان موقفهم إزاء المادة التي يتناولونها إما موقفا “أبويّا” أو موقفًا ينم على استعلاء و”تفضل” صريح، اللهم إلا إذا كانوا، بطبيعة الحال، مولعين بدراسة الآثار القديمة، وفي هذه الحالة كان الشرق “الكلاسيكي” أو القديم يعلى من شأنهم هم لا من شأن الشرق الحديث الذي يرثى له. وإلى جانب ذلك كان عمل الباحثين الغربيين يتلقى دعما وقوة من عدد كبير من الهيئات والمؤسسات التي لا نظير لها في المجتمع الشرقي “. (19)
كما وجه انتقادات لاذعة للمواقف السياسية، يقول عن طبقة المثقفين الشرقيين التي تساعد في نشر ما تظن ” أنه يمثل الاتجاهات الفكرية الأساسية المتبلورة في الغرب. وقد رُسِمَ لها دورُها بصفتها طبقة “تحديثية”: بمعنى أنها هي التي تخلع المشروعية والهيبة على أفكار التحديث والتقدم والثقافة التي تتلقاها من الولايات المتحدة في قسمها الأعظم “. (20)
إلا أنَّ تجذر الاستشراق في المشروع الاستعماري الأوروبي لا يعني إن كل المستشرقين كانوا في خدمة الاستعمار، وإن جل أعمالهم تقع في خانة الشبهة، ” أو أن ثمة خطّةً أوروبية شيطانية كانت تقف وراء مشروعهم البحثي، ولم تكن أيُّ من تلك الفرضيات مرجّحةً في أطروحة سعيد بطبيعة الحال، لكن تصحيفا غير مقصود وغير دقيق قد يجعلها كذلك. في نتاج الاستشراق كمشروعٍ ، علمي بحثي، مجموعةٌ من أكثر الأعمال البحثية أهميةً، لا نظيرَ لها إلى يومنا هذا، وقد كان نقد سعيد موجّها ضدّ الأصل المعرفيّ لهذا النسق التعليمي بغض النظر عن نتائجه الفردية “. (21)
إن الأفكار الليبرالية والتوجه القومي والفكر الاشتراكي، وكل ما أنتجه الغرب من منظومات فكرية كان على علاقة مبهمة مع الاستشراق وأثرت به، فهي لم تعارض بل وافقت على طروحات الاستشراق الإيديولوجية الرئيسية كتفوق الجنس الأبيض، وتفوق الغرب على الشرق المتخلف والذي يحتاج إلى النهوض به من خلال وضعه تحت الوصاية…
إن سعيد في شرحه وتوضيحه لنمط الانتاج الآسيوي والتي حاولت الماركسية تطبيقه لتوضيح الخصوصية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد الشرقية لهو دليل لا يمكن دحضه عن العلاقة المتشابكة بين المذاهب الكونية التي ولدت بالغرب وبين الاستشراق، ويعتبر سعيد إن مصطلح نمط الإنتاج الآسيوي، يشير إلى تمكن الرؤيا الاستشراقية في عقل مفكر كماركس، فهو لم يشعر بالحرج من عدم انتقاده لجرائم الإمبراطورية الإنجليزية المرتكبة ضد الهنود الحمر، بل اعتبر ذلك ضرورة لاستكمال المهمة الحضارية للغرب ضد الشعوب المتوحشة.
لقد تناول سعيد كارل ماركس كونه استشراقيا حتى إنه أورد مقولته:
“لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بدَّ أنْ يمثلهم أحد”. ( كارل ماركس مقتبسا من شهر برومير الثامن عشر للويس بونابرت ). واعتبر سعيد المقولة قيلت في حق الشرقيين الهنود، مما أثار المفكر العربي الماركسي مهدي عامل، وحثه على تأليف كتيب للرد على سعيد ومنهجه ” هل القلب للشرق والعقل للغرب – ماركس في استشراق إدوارد سعيد “.
يقول سعيد: إذا كانت الماركسية تقدم للماركسين العرب المفتاح الذي من خلاله يمكن لهم تفسير ” مجتمعهم المتأثر بالنزعة التقدمية، فإنها تؤبد علاقة الهيمنة التي يفرضها الغرب على الشرق بواسطة خلع المشروعية التاريخية على هذه الهيمنة “. (22) لقد اشتغل إدوارد سعيد على تفكيك الخطاب الاستشراقي، كما عمل على إظهار الأصل الاستشراقي لبعض الخطابات التي كتبها الباحثين العرب.
فحسب سعيد لا يمكن تفهم الثقافات والتاريخ دون دراسة القوة والسلطة فيها، فليس الخيال هو من صنع صورة الشرق، فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة، وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة “المركَّبة”، وهذا لا يعني إن الاستشراق مجموعة من الأكاذيب، فقيمة الاستشراق إنه الإثبات القوي على السيطرة الأوروبية ثم الأمريكية على الشرق، إن الاستشراق ليس خطابا صادقا حول الشرق حسب ما يدعيه الاستشراق بصورته البحثية، ويشدد سعيد إن خطاب الاستشراق يمتلك القوة المتماسكة، والصلة الوثيقة مع المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهبه القوة والسلطان، فالمذهب الفكري الذي يستطيع الاستمرار والصمود دون تغيير، ” منذ عصر إرنست رينان، في فرنسا، في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر في الولايات المتحدة، لا بد أن يكون أقوى من مجموعة من الأكاذيب وحسب. وليس الاستشراق إذن خيالاً أوروبيّاً مُتَوَهَّماً عن الشرق، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه من أنشأه، واستُثمرِت فيه استثماراتٌ مادية كبيرة على مر أجيالٍ عديدة “. (23)
إن الاستمرار بالدعم الكبير للاستشراق والاستثمار فيه كونه مذهبا فكريا معرفيا أن تحول الاستشراق إلى شبكة تنفذ منها الأفكار والتصورات حول صورة الشرق إلى وعي الغربيين، وتحول أيضا إلى طريقة للكسب.
إن الاهتمام الإنجليزي والفرنسي ثم الأمريكي بالشرق، كان اهتماما سياسي بالأساس وفق العديد من الروايات التاريخية، ولكن الثقافة هي التي أسست لهذا الاهتمام، وكان تأثيرها عظيما مع الدوافع الأخرى العسكرية والسياسية والاقتصادية ” حتى جعلت الشرق يتخذ صورة المكان المتنوع السمات والمعقد، وهي الصورة التي كان يبدو عليها بكل وضوح في المجال الذي أدعوه الاستشراق “. (24)
فالاستشراق لا ينحصر في موضوع سياسي يظهر بصورة سلبية في الثقافة أو المؤسسات، وليس هو ” مجموعة كبيرة غير مترابطة من النصوص المكتوبة عن الشرق، بل وليس تمثيلا وتعبيرا عن مؤامرة إمبريالية “غربية” دنيئة تهدف إلى إخضاء العالم “الشرقي”. لا بل الوعي الجغرافي السياسي المبثوث في النصوص العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية واللغوية “. (25)
وأيضا ليس تمييز جغرافي أساسي ( إن العالم ينقسم إلى قسمين لا متكآفئين هما الغرب والشرق ) بل هو سلسلة ” كاملة من المصالح التي يستعين في تحقيقها والحفاظ عليها بشتى الوسائل مثل نتائج البحوث العلمية، وإعادة البناء اللغوي القديم، واتحليل النفسي، ووصف ظواهر الطبيعة والمجتمعات “. (26)
للاستشراق عند سعيد معنى واسع وشامل، ويرتبط بالتقاليد لأكاديمية، وناقش في كتابه تخصصاتها وهجراتها ومؤلفاتها، فالاستشراق نمط من التفكير يقوم عى تمييز وجودي ومعرفي بين الغرب والشرق. لذلك هنالك الكثير من الكتاب (فلاسفة، شعراء، روائيون)
” وأصحاب نظريات سياسية، واقتصاديون، ومديرون إمبرياليون – قد قبلوا التمييز الأساسي بين الشرق والغرب باعتباره نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصلة، وإنشاء ملاحم، وكتابة روايات، وأوصاف اجتماعية، ودراسات سياسية عن الشرق، وعن أهله وعاداته، وعن “عقله”، ومصيره، وهلم جرّاً. وهذا اللون من الاستشراق قد يضم أيسخولوس، مثلاً، وفكتور هوجو،، ودانتي وكارل ماركس “. (27)
عمل سعيد في مؤلفه المهم على خلخلت مواقع الماركسيين والقوميين والليبراليين الذين سيطروا على المشهد الفكري العربي منذ الاستقلال، وحاليا صعد الإسلاميين لينافسوهم، ولكن كل هذه التيارات التحديثة لم تنتج شيئا ذا بال، والأوضاع العربية المزرية تشي بالواقع المر.
أفلح المفكر سعيد في تناول موضوع الاستشراق من جوانب عديدة، وقدم طرحا جديدا، وأثار زوبعة لم تنته حول المعرفة والسلطة، وحفز الآخرين على الغوص في مسألة الاستشراق من جديد.
غير إن سعيد تعرض إلى نقد شديد سواء من المستشرقيين، أو المفكرين العرب. وكان الدكتور صادق جلال العظم أبرز من قدم نقد لكتاب سعيد، فقد نشر كتابه الصغير
( الاستشراق معكوساً ) عام 1981م، وألحقه فيما بعد في كتابه “ذهنية التحريم”. (28)
يقول صادق العظم إن سعيد عرف ظاهرة الاستشراق الغربي بالمعنى الأعم والأشمل وهو اهتمام أوروبا بأحوال الشرق، ويضع الظاهرة في البداية في سياق تاريخي محدد، وهو حركة توسع أوروبا خارج حدودها، توسعا منتظما ومتسارعا وشمولي على حساب أراضي الغير، وإخضاع شعوبها واستغلال ونهب خيرات البلاد. وهذا يعني إن ظاهرة الاستشراق ظاهرة معقدة ونامية عن صيرورة تاريخية من أهم مظاهرها وتجلياتها حركة الاستعمار الأوروبي، وتحول الاستشراق إلى مؤسسة ضخمة ونامية مرتبط بمصالح الاستعمار الاقتصادية والاستراتيجية، حيث أنشئت هذه المؤسسة أجهزتها التنفيذية والإدارية،
” واكتسبت بنياناً فكرياً وأيديولوجياً تراكمياً ملائماً ينطوي على تشكيلة لا بأس بها من الفرضيات والنظريات والمعتقدات والتصورات والتسويغات اتي يتم التعبير عنها…من خلال الانتاج الفكري والعلمي والأدبي والسياسي “، (29) الذي تفرزه مؤسسة الاستشراق.
يميز سعيد بين مؤسسة الاستشراق، وبين الاستشراق الأكاديمي- الثقافي القائم على المنهاج العلمية السليمة، غير إنه يحمل الاستشراق الأكاديمي مسؤولية ترويجه أنه يقوم بدراسة المجتمعات الشرقية وشعوبها ولغاتها وثقافتها ودياناتها بحيادية وبعيدا عن الأحكام المسبقة والتحيز المغرض، وكرس سعيد جزء لا بأس به لينقض إدعاءته حول الحياد العلمي والموضوعية، ولم يكن في وارد الهجوم على اسهامات الاستشراق على الصعيد االتقني مثل الانجازات المتعلقة بفك رموز لغات مكتشفة، أو الاكتشافات الأثرية الهامة التي خلفتها الحضارات التي جاءت إلى الشرق وتحاربت على أرضه.
يوضح صادق العظم إن سعيد أراد الكشف عن المواقف العنصرية اتجاه الشرق، والأحكام الجائرة بحق شعوبه، وعلى آثار المنافع المادية الناتجة من إخضاع الشرق واستغلاله، فهذه الصورة عن الشرق لا يمكن أن تكون ناتجة عن دراسة علمية محايدة هدفها التقصي عن الحقيقة.
يهاجم سعيد بشراسة الإيمان لدى المستشرقيين إن جوهر الطبيعة الشرقية يختلف عن جوهر الطبيعة الغربية، إذ تتفوق الطبيعة الغربية بشكل كامل.
بمعنى إن الصورة التي بناها الاستشراق الأكاديمي الغربي عن الشرق ترتكز على ” التبني الكامل لأسطورة الطبائع الثابتة والمتمايزة حكماً عن بعضها بدرجات تفوقها وكمالها ورقيها”. (30)
فهذه القناعة تفسر الفوارق بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب بالطبائع الثابتة للشرق وليس إلى صيرورة تاريخية متحولة.
فسعيد يؤكد إن الاستشراق يميز بين الطبيعة الغربية المتفوقة، والشرق المتخلف، فالمسألة إن جوهر طبيعة الغرب المتفوق على مختلف الطبائع الأخرى، إذ يؤكد سعيد إن جوهر الاستشراق هو التمييز بين الطبيعة المتفوقة للغرب مقابل الطبيعة الدونية للشرق.
في البداية يحدد سعيد بداية الاستشراق بعصر النهضة الأوروبي، إنه لا يركز على
” استخلاص النتائج التاريخية والمنطقية المترتبة على طروحاته استخلاصا صارما دقيقا ومنتظما، بل يفضل اللجوء إلى الصياغات اللغوية البارعة والتوسطات الأدبية اللامعة لتبديد مظاهر الاحراج والتشويش والارتباك الفكرية التي يمكن ان تصيب تحليلاته نتيجة هذا النوع من القصور”. (31)
فلم يفسر سعيد نشأة الاستشراق وتطوره بداية من عصر النهضة الأوروبي كما أوحي في مقدمته، بل ارجع بداية الااستشراق وأصوله إلى ما قبل التاريخ الميلادي إلى هوميروس ويوربيدس ودانتي…فالاستشراق بدا للوهلة الأولى كظاهرة حديثة، وأنها نشأت استجابة لظروف تاريخية معينة، ثم رأينا إنها ترجع إلى عصور موغلة في القدم.
ويعرض سعيد في كتابه الكثير من الأمثلة حول لأفكار المسبقة والأحكام الجائرة والعنصرية حول الشرق التي حملها كبار مثقفو الثقافة الأوروبية كهوميروس ويوروبيدس…وهذا يعني إن الاستشراق يمارس التشويه ضد الشرق من قدم حضارة الغرب وثقافته.
ويرى صادق العظم إن هذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق يعود بنا إلى أسطورة الطبائع الثابتة التي يرغب سعيد في نسفها.
فظاهرة الاستشراق هنا ليست نتاج شروط تاريخية، أو استجابة لمصالح صاعدة، بل “تأخذ شكل الافرز الطبيعي العتيق والمستمر الذي يولِّده “العقل الغربي” المفطور بطبيعته، كما يبدو على إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشرِّهة عن واقع الشعوب الأخرى ومحقّرة لمجتمعاتها وثقافاتها ولغاتها ودياناتها في سبيل تأكيد ذاته والاعلاء من شأن تفوقه وقوته وسطوته”. (32)
ويورد العظم سببين يؤديان إلى إفشال الأهداف الأساسية التي من أجلها ألف سعيد دراسته النقدية، وهما(33):
أولا: أنه يرجعنا بصورة ضمنية إلى نمط من التفكير والتعليل يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة.
ثانياً: لأنه يعطي ميتافيزيقا الاستشراق، التي تحوِّل التسميات الجغرافية النسبية إلى مقولات ضرورية مطلقة، نوعاً من المصداقية والجدارة يرتبط عادة بالاستمرارية الطويلة والتواصل التاريخي والجذور التاريخي، علماً بأن إدوار سعيد هدف إلى هدم مقولتي: الشرق شرق، والغرب غرب. والعمل على تجاوز هذه التقسيمات المليئة بالتفوقية والعنصرية إلى مستوى إنساني قائم على النظر إلى تفاعل الثقافات المختلفة وذك باسم الإنسانية المشتركة.
إن الظواهر الكبرى في التاريخ الأوروبي كالقومية وغيرها، ادعت إن لها أصول وجذور في القدم، لتظهر إنها سليلة عصر ذهبي قديم، ومظهر القوة والمصداقية لكسب التأييد لما تدعة إليه، فالاستشراق (حسب العظم) ظاهرة حديثة افرزتها القوى الحية لتاريخ أوروبا في العصر الحديث، وإنه عاد إلى الماضي وأخذ من مادته الفكرية والشعبية المتوارثة التي تتناول الشرق وما تحتويه من عنصرية وتشويه لبناء قصره الفكري المرغوب، “ولاكساب نفسه صفات الجدارة والمصداقية والثقل الضروروية لفعاليته، ولتدعيم أيديولوجيته المتلائمة مع المصالح الأساسية التي كان يعبر عنها ويخدمها في كل مرحلة من مراحل تطوره”. (34)
ويرفض العظم هذه المقولة لأنها تكرس عمليا أسطورة الطبيعة الجوهرية الغربية الثابتة.
كما تطرق العظم في نقده استشراق سعيد، لتحليله موقف ماركس من الاستعمار الإنجليزي للهند، فسعيد يرسم صورة مشوة لماركس، فهو يتحدث أنه في بادئ الأمر شعر ماركس بالصدمة والهول من مشاهدته التدمير الكبير الذي يتعرض له النظام الاجتماعي الهندي التقليدي على يد المستعمر الإنجليزي، والتحولات على نسيج الحياة الموروث، وأبدى تعاطفه الإنساني مع آسيا البائسة، وشعبه الشقي والمعذب، ولكن فيما بعد وقع ماركس تحت تأثير الاستشراق وتصوراته وتعميماته، فتغيرت نظرته وأطلق عباراته وتعريفاته المأخوذة من الاستشراق.
ففي عام 1853م، قدم ماركس تحليلاته للحكم الإنجليزي في الهند، فحدد بداية معنى النظام الاقتصادي الآسيوي، ثم تطرق إلى ما تعرض له النظام من مظاهر السلب والنهب البشري نتيجة قسوة وشراهة الاستعمار الإنجليزي، ولكنه كان يقول إن بريطانيا في تدميرها لآسيا كانت تهيء الفرصة لثورة الاجتماعية حقيقية.
يقرل ماركس: “لا بد أن مشعرنا الإنسانية تتأذى من مشاهدة تلك الآلاف من المنظمات الاجتماعية النشطة والوقورة وغير المضرة وهي تتعرض للانحلال والذوبان في الوحدات التي تتشكل منها، الأمر الذي يلقي بها في بحار الأحزان، ومشاهدة أعضائها ص 252 سعيد
الأفراد وهم يفقدون في الوقت نفسه الشكل القديم لحضارتهم ووسائل رزقهم المتوارثة، ولكننا…يجب ألا ننسى ن تلك المجتمعات القروية الشاعرية، ولو كانت في ظاهرة غير مصضرة، كانت على مر الزمان تمثل الأساس المتين للاستبداد الشرقي، وأنها حبست الذهن الشرقي في أضيق نطاق ممكن، فجعلته أداة طِّعة للخرافات، واستعبدته وغَلَّلته بالقواعد التقليدية، وحرمته من كل جلال ومن الطاقات التاريخية جمعاء”. (35)
فماركس يعتبر إن جرائم انجترا هي وسيلة التاريخ في إحداث الثورة الاحتماعية في الهند، وانهيار العالم القديم، ويستشهد بأشعار جوته:
“وإذن أعلينا أن نتألم من تلك اآلام
وهي تعود علينا بسرور أعظم؟”
أفلم تهلك أرواح لا حصر لها
في ظل حكومة تيمور الأغشم. (36)
وحسب هذه الأفكار فإن مصادر تصورات ماركس عن الشرق، هي تصورات رومنطقية بل مسيانية تعبر عن رجاء عودة الخلاص.
ويقول ماركس: “إن على انجلترا أن تفي بمهمة ذات شقين، الشق الأول يدمر والثاني يعيد التوليد والإحياء – فالأول يعني إبادة المجتمع الآسيوي، والثاني يعني إرساء الأسس المادية لمجتمع غربي في آسيا”. (37)
يقول سعيد إن مصادر ماركس حول أطروحته التاريخية هو الاستشراق بعلومه المزورة، وتعميماته المقيتة، والاستشراق بصورته المسيحانية، فالمشاعر التي أبداها ماركس في البداية تختفي لتحل محلها التعريفات التي شيدها العلم الاستشراقي.
يدافع العظم عن تفسير ماركس للصيرورة التاريخية لمجتمعات آسيا وثقافتها، ويرفض مقولة إن الاستشراق وعقائده وتعميماته وصياغاته اللغوية سيطرة على عقل ماركس وأدت إلى حجب رؤية حقيقة الشرق، وانهت تعاطفه الإنساني مع شعوبه البائسة، “وكأن افتتان إدوارد الواضح بكل ما يمت بصلة إلى اللغة والعبارة والخطاب والتجريد الخ، يشكل دعوة لنا للرجوع إلى طور الإيمان بالفاعلية السحرية للكلمات”. (38)
والغريب في الأمر إن العظم يرجع للقول إن ماركس كغيره من كبار المفكرين، “خضع لتأثيرات عصره بعلومه النموذجية وأفكاره الرئيسية وتجاربه الكبرى وأحكامه العامة وتعميماته الشاملة وتجريداته السائدة وصياغاته اللغوية المفضلة”. (39)
وإن مقولة ماركس إن الاستعمار الإنجيلزي للهند هو الأداة التاريخية غير الواعية في التمهيد لثورة اجتماعية حقيقة عن طريق تدمير الهند القديمة وارساء الأسس التي ستقوم عليها الهند الجديدة، لا صلة له بالاستشراق وأوهامه الزائفة وتعميماته!
ويتجاهل العظم مقولة ماركس حول تدمير الهند لإعادة إحيائها وفق الأسس المادية لمجتمع غربي.
إذ في النهاية من أعطى الحق لماركس في تحديد النظام الملائم لحياة ملايين الهنود، ولماذا يجب أن يكون نظاما غربيا؟ أليس هذا يعني تأبيد مقولة تفوق الغرب ولا شيء سواه.
لا شك إن إدوارد سعيد الفلسطيني كان تحت تأثير الاحتلال الهمجي لبلاده، لقد بنى سعيد كتابه بالاتكاء على فكر ميشيل فوكو، وناقش مسألة العلاقة الشائكة بين المعرفة والسلطة وأثارها بحدة. ولكن لا نهاية للنقاش، فهل المعرفة هي السلطة؟ وهل لا توجد معرفة دون سلطة؟ وأسئلة كثيرة لا مجال لذكرها إذ نحتاج للدخول في نظرية فوكو وتطبيقاتها.
ويعزو البعض ردة فعل سعيد القوية ضد الاستشراق، كون الاستشراق سار جنبا إلى جنب مع الاستعمار، كما إن الاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين الذي نهب كل الأرض وهيمن على شعبها له تأثيره على فكر إدوارد سعيد حول الاستشراق. ولقد أوقعنا في إشكالية إمكانية وجود المعرفة بمعزل عن السلطة، أو وجود الطريق القويم للوصول إلى الحقيقة، فهل الاستشراق يبحث عن الحقيقة أم الاستغلال؟ هو سؤال إشكالي لا جواب نهائي عنه، وستبقى الجدالات موجودة على الساحة الثقافية العربية ما وجد الاستشراق والهيمنة الغربية.
الهوامش
1- المعجم الوسيط. القاهرة: مجمع اللغة العربية، المجلد الأول، د ت، ص 482.
2- موقع ويكيبيديا.
3- إدوارد سعيد. الاستشراق (المعرفة. السلطة. الانشاء). ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: منشورات مؤسسة الأبحاث العربية، ط4، 1995م، ص 101.
4- المرجع السابق نفسه.
5- للاستزادة انظر: محمد أركون وآخرون. الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الساقي للطباعة والنشر، ط3، 2016م، ص 88.
6- عبد الأمير الأعسم. دراسات في الاستشراق. دمشق: منشورات دار الفرقد، ط1، 2011م، ص 42-43.
7- الرجع السابق. ص 43.
8- المرجع السابق. ص 45.
9- المرجع السابق. ص 46.
10- المرجع لسابق. ص 60.
11- محمد أركون وآخرون. مرجع سبق ذكره، ص 94.
12- المرجع السابق نفسه.
13- المرجع السابق. ص 106.
14- عبد الوهاب شعلان. هواجس النخب العربية وقضاياها الفكرية، القاهرة: مكتبة الآداب للطباعة والنشر، ط1، 2013م، ص 95-96.
15- المرجع السابق. ص 96.
16- المرجع السابق. ص 97.
17- محمد أركون وآخرون. مرجع سبق ذكره، ص 104.
18- المرجع السابق. ص 116.
19- إدوارد سعيد. الاستشراق “المفاهيم الغربية للشرق”، ترجمة الدكتور محمد عناني، القاهرة: دار رؤية للنشر ولتوزيع، ط، 2008م، ص322.
20- حميد دباشي. ما بعد الإستشراق المعرفة والسّلطة في زمن الإرهاب، ترجمة باسل عبد الله وطفه، إيطاليا: منشورات المتوسط، ط1، 2015م، ص 141.
21- المرجع السابق نفسه ص 141.
22- محمد أركون وآخرون. مرجع سابق، ص 222.
23- إدوارد سعيد. الاستشراق “المفاهيم الغربية للشرق”، ترجمة الدكتور محمد عناني، مرجع سابق، ص 50.
24- المرجع السابق، ص 58.
25- المرجع السابق، ص 58.
26- المرجع السابق، ص 58.
27- المرجع السابق. ص 45.
28- صادق جلال العظم. ذهنية التحريم – سلمان رشدي وحقيقة الأدب، دمشق: دار مدى للثقافة والنشر، ط2، 2004م.
29- المرجع السابق. ص14.
30- المرجع السابق. ص 30.
31- المرجع السابق. ص16.
32- المرجع السابق. ص 16-17.
33- المرجع السابق. ص 17.
34- المرجع السابق. ص 18.
35- إدوارد سعيد. الاستشراق “المفاهيم الغربية للشرق”، ترجمة الدكتور محمد عناني، مرجع سابق، ص 253.
36- المرجع السابق نفسه.
37- المرجع السابق. ص 254.
38- صادق جلال العظم. ذهنية التحريم، مرجع سابق، ص 31.
39- المرجع السابق نفسه.
الوسومجدالات الاستشراق على الساحة الثقافية العربية د.أيمن دراوشة
شاهد أيضاً
“حارسة خزائن بوتين” بقلم هيام كامل
الذكاء الحاد والطفرات الجينية الخارقة لم تقتصر علي جنس الذكور فحسب بل توجد أيضا هذه …