السعيد عبد العاطي مبارك الفايد – مصر
****************
مع شاعر ليبيا الأول :
مصطفى بن زكري ١٨٥٣ / ١٩١٧ م ٠
” دعاك الهوى فاجب من دعاك
رقم بصبابته في صباك
ودع عنك غير دعاة الغرام
وصدقهم واتهم من نهاك
ومت بهوى من سباك هواه
عساك تنال رضاه عساك
فيا طرف أرخصت سوق الغرام
تسوم فرائده ببكاك
وما لك تشكو السهى والسهاد
أتنكر ما صنعته يداك
ويا قلب تشتاق من تشتهيه
وأنت لديه فكيف جفاك ٠
٠٠٠
” جفاني بلا ذنب سوى أن حبه
تبوّأ سوداء الفؤاد من القلب
وإن كان ذنبي أن قلبي يحبه
فإني مصرّ ما بقيت على ذنبي ” ٠
٠٠٠
يا فتنة النساك رفقاً بمن
حبك لم يترك له رمقا
مُنعت أن أملأ طرفي أن
يملأ من أوصافك الورقا
٠٠٠
قام يسعى بقده المياس
ثمل اللحظ من شمول النعاس
أهيَف المنثنى شهي الثنايا
ساحر اللفظ عاطر الأنفاس
طال ما طالب المشوق لقياه
فيجيب المشوق من قلب قاس ٠
٠٠٠٠
عندما يدور الحديث هنا في هذه التغريدة الشعرية مع الشعر و الشعراء نتوقف مع الشعر العربي في ليبيا الشقيقة نرصد مسار و اتجاهات و تطور للحركة الشعرية في ليبيا ٠
و ليس هذا بدعا عن غيرها دول الوطن العربي الكبير ٠٠٠
فهى ليست بمعزل عن الأوضاع السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي تأثرت بالظروف و البيئة التي عصفت بالمكون أضف إلى الاستعمار و الصراعات التي مرت بها هذه البلاد و ملحمة عمر المختارعبر السنين وما زالت تسيطر هذه الحالة الآن على الساحة شرقا وغربا هكذا ٠٠٠ !٠
لكن يظل المشهد الثقافي الليبي عامرا بطيف متنوع من الآداب والفنون والإبداع الإنساني، كما يبقى الشعر مزدهرا متمتعًا بمكانته الثقافية المتميزة من منابعه الاولية مع خط التجديد ٠٠٠
فخريطة الشعر الليبي إبان الحكم التركي العثماني قد مرت بحالة من الركود و الجمود كسائر البلدان حتى أن شعراء العربية الفصحى
كانوا قليلين هنا في ليبيا ومن أشهرهم على سبيل المثال :
الشاعر محمد فالح الظاهري، والشاعر أحمد الطائفي ، عبد الرحيم المغبوب ، و أبوسيف البرعصي ، وغيرهم ٠٠
وقد اتصف شعر تلك الحقبة بالتكلف في البلاغة والنظم ٠
و في القرن العشرين نسلط الضوء على ظاهرة الشعر الحديث في ليبيا، مع شِعر “ابن زكري” و الذي تأثر بشعراء عصره في تلك الفترة في ظل صيحة الطباعة فكان صاحب أول ديوان شعري ليبي مطبوع ، و من ثم لُقب بشاعر ليبيا الأول، و كما نلمح الغزل في جل شعره
في عملية الإبداع الفني داخل الإنشاء النصي ، والعناية بالمحسنات البديعية، وإبراز قدرات الشاعر البلاغية، فكان نموذجا راقيا على نافذة الثقافة ٠
* نشأته :
======
ولد الشاعر مصطفى بن محمد بن إبراهيم بن زكرى ، في عام ١٨٥٣ م
في طرابلس (الغرب) – بليبيا ، وفيها توفي عام ١٩١٧ م .
عاش في ليبيا ومصر والحجاز وتركيا.
تلقى تعليمه المبكر في مدرسة عثمان باشا وجامع شائب العين، فتثقف بالثقافتين: العربية الدينية التقليدية والتركية. ثم تتلمذ الشاعر على عدد من شيوخ
عصره، منهم: محمد كامل مصطفى، والسراجي سراج، وتلقى أفكار أستاذهما جمال الدين الأفغاني.
عمل بالتدريس في جامع شائب العين، ولكنه لم يحقق في عمله ما كان يصبو إليه فأكب على الأعمال التجارية ٠
فقام برحلة تجارية إلى الحجاز (1891)، حيث أدى فريضة الحج، وفي أثناء عودته عرج على مصر وطبع بها ديوانه (1892)، وأعقبها برحلة إلى أوروبا.
أسهم في تحرير جريدة «الترقي» (1898)، فانبرى محللاً الأحداث الليبية التركية اجتماعيّاً وسياسيًا وإصلاحيا. ومن ثم وقع عليه الاختيار ليكون عضوًا بمجلس إدارة الولاية (1903) في عهد الوالي حسن حسني باشا.
عين رئيسًا لمكتب الفنون والصنائع (1906)، وكان يجمع إلى ذلك مهمة مستشار الولاية في عهد الفريق رجب باشا.
الإنتاج الشعري:
==========
– له ديوان مصطفى زكرى – المطبعة العثمانية – القاهرة 110هـ/ 1892م (صدر في طبعة محققة – تحقيق: علي مصطفى المصراتي) – دار لبنان – بيروت 1972، وله قصائد نشرت في جريدة الترقي الطرابلسية أواخر القرن التاسع عشر.
الأعمال الأخرى:
– له مقالات نشرت في جريدة الترقي الطرابلسية.
نشأت قصيدته في ظل التقليد والصنعة، ولكنه نجح في تجاوز هذه الدائرة بما امتلك من ذاتية عملت على إبراز عاطفته، وبرحلات اطلع خلالها على تجارب خارج نطاق بيئته المحلية التقليدية، وبعلاقته الوطيدة أخيرًا بالشعر الأندلسي، اشتهر بغزله الذي غلب عليه طابع وصفي تجلّى في قدرته الفائقة على رسم الصور بما أوتي من صدق عاطفة وحرارتها، وهو ما ميزه عن غيره ممن اشتهروا بما اشتهر به، فكانت له شخصيته الشعرية المستقلة، مما جعله واحدًا من رواد الارتقاء بالشعر الليبي، وحلقة من حلقات تطوره.
في أسلوبه حيث أثر البلاغة القديمة، وبخاصة فنون البديع، وأكثر ما له قصائد متوسطة الطول أو قصيرة.
لقب بشاعر ليبيا الأول.
٠٠٠٠٠٠٠
ونراه يهيم شوقا بموطنه ” طرابلس ” فيكتب فيه أعذب الألحان قائلا :
طرابلس الغرب لي وطن
أعزُّ بلاد وأكرم حي
ولكن شرقيها شاقني
وما شاقني فيه غير ظبي
ظبي ولكنهم صحفوه
بنقص البناء فسموه بي
تنبأ بالحسن في فترة
فآمنت لما تجلَّى علي
وإن لم أكن مؤمنا بالذي
أشاهد من آيه فبأي
أنست بخديه نار الهدى
فنزهت في نورها مقلتي
وهمت ولا غرو في حسنه
وهل خلق الحسن إلا لكي
وجدت بروحي ولا منة
عليه وأخرجتها من يدي ٠
* مختارات من شعره :
==============
يقول ابن زكري في قصيدته بعنوان ( دعاك الهوى ) حيث نلمح الحب العذري في نزعات صوفية إشراقية جميلة في وصف الحالة :
دعاك الهوى فاجب من دعاك
رقم بصبابته في صباك
ودع عنك غير دعاة الغرام
وصدقهم واتهم من نهاك
ومت بهوى من سباك هواه
عساك تنال رضاه عساك
فيا طرف أرخصت سوق الغرام
تسوم فرائده ببكاك
وما لك تشكو السهى والسهاد
أتنكر ما صنعته يداك
ويا قلب تشتاق من تشتهيه
وأنت لديه فكيف جفاك
ويا سقم مالك فارقت جسمي
أظنك لم تلق فيه قراك
ويا ملكاً في بديع الصفات
أناشدك العدل في مصطفاك
جرى بشقائي عليك القضاء
فلا تجعلن الجفا من قضاك
هواك برى ما ترى من عظامي
فيا بدر سبحان من قد براك
فدتك النفوس ومن لي بنفس
إذا بخل الناس كانت فداك
ولكن جسمي أسير السقام
وسل عن فؤادي وقلبي هواك
وسل هل أتى عن صريع الغرام
فإن لها نبأ هل أتاك
أنا ذلك العبد فامنن برقي
وجد للمشوق بأنس لقاك
فقد طال فيك مطال الأماني
ونلت من السقم فوق مناك
فما ذنب عبد أطاعك في حب
ه وعصى عاذليه عداك
أتعرض عمن تعرض شوقاً
إليك وأعرض عما خلاك
وتنكر معرفة ليس تخفى
عليك وإن خفيت عن سواك
أراك وأفهم منك حياء
فأطرق رأسي لئلا أراك
وأعرض عنك لئلا يقال
فلان له غرض في هواك
وشوقي عظيم ولكن نفسي
تسوم بكل عظيم رضاك ٠
***
و يقول ابن ذكري في قصيدة أخرى بعنوان ( أشكو لهيب الأسى ) و في معاناة الهجر و الحرمان و التبرم و الشكوى يقف طويلا في حوار مع الأسى و يحمد صبر القلب شاكرا على مدى تجلده راسما تباريح العشق و الجوى في تماسك :
أشكو لهيب الأسى لموقده
وأشكر القلب في تجلده
وأنظر إلى الفكر في تحيله
يدنو بآماله لمبعده
مهفهف تسجد الغصون له
ويخجل الورد من مورده
أودّ لو تسرع المسير بنا
ساعات عمري لوقت موعده
يجرد البيض من لواحظه
وفتنة اللحظ من مجرده
ولست أرجو الخلاص من شغفي
به وقيد الفؤاد في يده
إلا بتقريض در حاشية
ينسبها عصرنا لأمجده
لا يعجب الدهر من فرائدها
لأنها من صنيع مفرده
كأنها الراح في شمائلها
وصفوها غصة لحسده
ونثرها في العقود منتظم
ونظمها فتنة لمنشده
تختال بين الطروس خردها
فتطرب اللحظ في تسهُّده
أكرم به من مصنف جمعت
نفائس الدر في مقلده
وإن أتى آخر الزمان فقد
تقدمت بينات مسنده
وإن أتى مفرداً ومختصراً
في فضله طال عن معدده
يروي عن الجوهري مسنده
عن ناقد الدر عن منضده
ورقَّ معناه في بلاغته
فكاد يخفى على مردده
يقول في وصفه مؤرخه
عقد يريح النهى بخرّده ٠
***
و نختم لابن زكري بهذه القصيدة المفعمة بالتجليات الصوفية تحت عنوان ( وظائف الإنسان في دنياه )
حيث الزهد و الفلسفة التأملية الجمالية لماهية الحياة ، مع السعي نحو الهدف من وراء وجود خلق الإنسان في هذا الكون و رسالته في الطاعة و العبادة فيقول فيها :
وظائف الإنسان في دنياه
أن يعبد الله وأن يخشاه
وأن يكون راضياً بما قضى
ولم يكن لحكمه معترضا
واعلم بأن لعلم نور وهدى
والجهل لا يأتي بخير أبدا
سبحان من منّ علينا بالقلم
وعلّم الإنسان ما لم يعلم
من مارس العلوم والعرفانا
يجني ثمار المجد حيث كانا
والزهد في العلم من الحرمان
والمرء بالقلب واللسان
من لم تهذبه فنون الوقت
لا زال ملحوظاً بعين المقت
والبحث عن طبائع الزمان
من الضروريات للانسان
من لم تحنكه يد التجريب
يعيش في دنياه كالغريب
وعزة المرء من رأس المال
فلا تهن نفسك بالسؤال
وتبتغي من فضله تعالى
رزقاً هنيئاً طيّباً حلالا
وأقرب الناس إلى الحرمان
من قطع الأيام بالأماني
فانهض بخير حسب الاستطاعة
ونعم كنز المؤمن القناعة
والقصد في العيش من التدبير
والمال لا يبقى مع التبذير
كما تدين في الورى تدان
ومن أهان غيره يُهان
ولا تَردِ موردَ الشقاق
والزور والبهتان والنفاق
فربنا جلَّ عظيم الشان
يأمر بالعدل والإحسان
واستعمل الرفق تجد رفيقاً
ولا تجد لأحمق صديقاً ٠
***
هذه كانت صفحة من ديوان الشعر الليبي في العصر العثماني لشاعرها الأول ابن زكري الذي صال وجال مع الغزل في ومضات وهمسات و معاناة ينسج قصيدته في رحاب العشق و الهوى العذري في نقاء مطرز ببلاغة المحسنات البديعية و مفردات لها حضور جلي تسطر تجربته الشعرية بعمق و تواصل في صور وخيال يضفي على المشهد روعة وجلال مع ايقاعاته المتنقلة ذات أنفاس الشجن و الحنين و الأنين في شدو لا يتوقف كالبلبل الصداح بين ظلال القصيد في تفرد نصي و إنشادي تهنأ به قريحة المتلقي في تزاوج لحالة العشق التي تساور ابن ذكري شاعر ليبيا الأول المطبوع بكل المقومات الفنية ليظل شعره يزف لنا أولويات الغزل الحديث دائما ٠
مع الوعد بلقاء متجدد لتغريدة الشعر العربي أن شاء الله ٠