3_الرؤيه الدينيه للشر
بعد توضيح الرؤية الفلسفية التقليدية في تفسير الشر، يقابلها رؤية أخرى دينية تعتبر الشر من (فعل الله ومشيئته) لغرض البلاء واختبار العباد في الدنيا، كالذي تشير اليه الكثير من النصوص القرآنية، وعليه نشأت فلسفة التكليف باعتباره مناطاً باختبار العباد، بما يتضمن من أركان؛
كركن النبوة والرسالة للتبليغ وإلقاء الحجة وركن يوم الحساب المتمثل في الثواب والعقاب.
وقد اعتادت هذه الرؤية ان تعزو ما يحدث للبشر من كوارث طبيعية إلى غضب الله على المفسدين في الأرض.
وما زالت هذه الفكرة سائدة لدى الرؤى الدينية المختلفة، وفي الاسلام تجد ملاذها فيما ورد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مثل قوله تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)).
ولأن ظاهر الآية يبدي الاطلاق فقد اتبع المفسر محمد حسين الطباطبائي إلى وهم هذا الظاهر، معتبراً أن الشرور، كالحروب والأمراض المعدية والزلازل والجفاف والفيضانات وغيرها، كلها نتاج الإنحراف والفساد والغي والظلم والضلالة.
لهذا هناك من يرى بأن الله كلي القدرة لكنه ليس كلي الرحمة والخيرية بما ينسجم مع مذهب الأشاعرة، خاصة وان الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تبدي هذا المعنى..
ان ما يضعف هذه الرؤية هو ان الكثير من الكوارث تحدث في بلدان فقيرة أو معدمة
كما ان الرؤية السابقة لا تفسر ظواهر أخرى للشر ليس لها علاقة باختبار العباد، كالذي يجري في عالم الحيوانات من افتراس بعضها للبعض الآخر وبوحشية مريرة، أو ما يجري بالنسبة للاطفال(الامراض الوراثيه ) ضمن الكوارث العامة والخاصة، وقد لا يكون لهؤلاء أحد من المعارف والاقارب، وربما لا يعرف بمصيرهم أحد، وهو ما يخرج عن حد اختبار العباد من الاحياء والاقرباء.
يذكر حول موضوع الشر والرؤية الدينية ما يعرف بزلزال لشبونة (عام 1755)، حيث دمّر ثلاثة أرباع المدينة البرتغالية وسحق حوالي (30 ألف شخص) تحت الانقاض، كالذي أشار اليه فولتير في روايته الساخرة (كانديد). وفي احصاءات أخرى ان التدمير فاق العدد السابق بأضعاف. وتعود أهمية هذا الزلزال إلى انه حدث في يوم عيد القديسين الكنسي، اذ دمّر أغلب كنائس المدينة الكاثوليكية، بل ان التدمير شمل المناطق التي تكثر فيها الكنائس بما هو أعظم من المناطق الأخرى الموصوفة بالفاجرة.
4_ تنابز الفلاسفه وسخريتهم من بعض
ومن سخرية القدر ان يستغل اتباع الايمان مثل هذه الحوادث للنيل والتنكيل من بعضهم البعض، كاشارة إلى غضب الله على المخالفين من المذاهب والفرق الدينية. فزلزال لشبونة قد انتشى له الفرنسيون طرباً وسروراً في ضربه لهذه المدينة الكاثوليكية، وهو واحد من محطات كثيرة اتخذتها المذاهب المختلفة للتنكيل من بعضها البعض وفق مقالة غضب الله.
وقبل هذا الزلزال المدمر بخمسين سنة نشر الفيلسوف الالماني لايبنتز كتاباً بعنوان (ثيوديسيا Theodicy) أو العدالة الإلهية، وعنى به تبرير المؤمن للشر بما يتفق وهذه العدالة التامة، أو بما يقترب من الرؤية الفلسفية التقليدية، حيث ليس بالامكان أبدع مما كان، لولا أن فيلسوفنا لا يعتبر ان ما يجري يخضع للحتمية لاعترافه بأن لله القدرة والارادة الحقيقيين.
فمع انه يرى ان عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، لكن ذلك لم يأتِ وفق القاعدة الارسطية الآنفة الذكر، اذ لا يوجد ما يحتم ايجاد عالمنا بهذا الشكل، بل ما جرى هو لاعتبار ان هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، ولذلك اختاره الله من دون البقية.
لكن عندما حدث زلزال لشبونة صبّ فولتير جام سخريته على ثيوديسيا لايبتنز وعالمه المفضل الذي اعتبره أفضل العوالم الممكنة، فهو يقول بلسان بطل الرواية كانديد: إذا كان هذا خير العوالم الممكنة، فما تكون العوالم الأخرى؟.. وعند سماعه لنكبة لشبونة غضب على رجال الدين الفرنسيين الذين اعتبروا الكارثة عقاباً لسكان العاصمة البرتغالية على ذنوبهم وخطاياهم، وانشد قصيدة متشائمة ومؤثرة تدور حول جدوى وجود الشر في العالم.. هذا نصها كما وردت في الترجمة العربية:
أنا جزء صغير من الكل الكبير.. نعم، لقد حكم على جميع الحيوانات بالحياة.. لقد ولدت جميع المخلوقات بمقتضى القانون ذاته.. وهي تتألم مثلي ومثلي تموت.. يشد الصقر على فريسته الوجلة ويطعن بمنسره الدامي أطرافها المرتعشة..
ويبدو كل شيء على ما يرام في عينيه لفترة.. ويمزق النسر الصقر إلى قطع شر تمزيق.. ويرشق الإنسان النسر بنباله ويقتله.. ويسقط الإنسان في غبار معارك الحروب.. ويختلط دمه بدماء القتلى من رفاقه.. ويصبح بدوره طعاماً للطيور الكاسرة.. وهكذا كل شيء في هذا العالم يئن ويتألم..
لقد ولد الجميع للعذاب والموت.. ومن فوق هذه الفوضى الشاحبة ستقول: ينزل الشر بواحد لخير الجميع.. ما هو النعيم! عندما تصرخ بصوت فانٍ يرثى له كل شيء حسن.. إن الكون يناقضك، ويناقض قلبك.. ويدحض مائة مرة أوهام عقلك.. ما هو رأي هذا العقل الأوسع؟..
إن كتاب القدر مغلق علينا.. إن الإنسان غريب في بحثه ولا يعرف من أين يجيء وإلى أين يذهب.. ذرات معذبة في فراش من طين يبتلعها الموت، سخرية القدر.. إن وجودنا ممزوج باللانهائي ولن نرى أنفسنا أو نعرفها أبداً.. إن هذا العالم مسرح للكبرياء والخطأ يعج بالمجانين المرضى الذين يتحدثون عن السعادة..
لقد غنيت مرة بأنغام أقل كآبة وحزناً بأن السرور المشرق هو الحكم العام.. ولكن الوقت قد تغير.. وعلمني تقدم العمر أن أشارك الناس في إنكسارهم وأبحث عن ضوء وسط الظلام العميق.. لا أقدر إلا أن أقاسي ولن أتذمر أو أتضجر.
هكذا يعترض فولتير على فكرة ان العالم أفضل العوالم كما سطره لايبتنز، بل ورآه شديد السوء بفعل ما يغلب عليه من شر. وهو لم يحدد أين مكمن الخلل، خاصة ان طرحه كان عاطفياً دون ان يهتم بتحليل المشكلة عقلياً.
يتبع ان شاء الله
5_اشكالية الاله