بقلم / د.عبدالواحد الجاسم
أن مشكلة الشر لم تعالج كقضية لها علاقة تحليلية بالافتراضات التي يمكن طرحها حول كيفية ما جرى من خلق من حيث المبدأ.
فاذا كان الخلق بالنسبة للمؤمن يعبر عن علاقة خالق بمخلوق ، فإن الخلل والقصور تارة يفترض من جهة الفاعل، وأخرى من جهة المنفعل، وبالتالي هناك تصورات مختلفة حول الموضوع المناط بتفسير الشر.
ويمكن تحديد الافتراضات الممكنة بهذا الصدد كالتالي:
1ـ أن يعود مصدر الخلق إلى منفعل من دون وجود فاعل مستقل.
2ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام من دون وجود منفعل مستقل.
3ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر رغم عدم وجود منفعل مستقل.
4ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل غير قاصر مع وجود منفعل مستقل.
5ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام مع قصور في المنفعل المستقل.
السؤال:
كيف يمكن ان نرجح أحد الافتراضات السابقة على غيرها؟
فما هي نقاط ضعف الافتراضات المطروحة طبقاً للحاظ مشكلة الشر وطبيعة ما عليه الوجود عموماً؟
وكجواب على ذلك لا بد من تحليل هذه الافتراضات كالتالي:
*الافتراض الأول :
ينكر ان يكون للموجودات((( إله مستقل خالق)))، وهو ما تتبناه الرؤية الإلحادية، وعليها يمكن تفسير لماذا الشر موجود.
لكن هذا الافتراض غير معقول، لأن شواهد طبيعة النظام الكوني الدالة على((( وجود الإله لا تعد ولا تحصى)))، وكل يوم يزداد هذا الدليل قوة ومتانة عند كل كشف جديد من العلوم التي اشار اليها القران .
مع هذا يمكن ان يكون لهذا الافتراض مصداقية فيما لو لم يكن لدينا أدنى ترجيح لصالح اثبات وجود الاله، كإن لا يدلنا النظام الكوني على شيء من التوقعات المتعلقة بالاثبات المشار إليه، أو ان دلالته تتخذ طابعاً سلبياً، بمعنى انه دال على ترجيح النفي لا الاثبات، كالذي يزعمه الملحدون.
في حين عندما يكون لهذا النظام الدقيق دلالات لا تعد ولا تحصى على اثبات الوجود الإلهي؛ فإن ذلك سوف لا يتيح لظاهرة الشر أن تكون معارضة له.
لذا فمن الناحية المنطقية تحتاج هذه الظاهرة إلى تفسير ضمن منظومة الاعتقاد الإلهي لا في عرضها .
*الافتراض الثاني :
يجد تأييداً من قبل اللاهوتيين، إذ كان أتباع الأديان السماوية وما زالوا يعولون على فكرة ان ((((الله خلق الأشياء من العدم المحض)))) حيث له العلم الكلي والقدرة الشاملة والخير التام.
لكن هذه الصفات تتناقض مع الشرور التي ركزت عليها الحجج الإلحادية، إذ كيف يمكن ان يكون هناك إله خيّر ذو علم كلي وقدرة شاملة ومع ذلك يسمح بمثل هذه الشرور؟.
وعليه لا يفي هذا الافتراض بالمطلوب كما هي ملاحظة الملحدين.
فمن غير المعقول ان يتصف الإله بالصفات الكمالية وانه لا يعجز عنه شيء؛ ومع ذلك لا يفعل ما يمنع به ظهور الشر، أو على أقل تقدير المروع والصادم منه.
*الافتراض الثالث :
نجد انه يتفق مع الثاني في كون الإله قد خلق كل شيء من العدم المحض، لكنه يعاني من مشكلة تتعلق بناحية أو أكثر من نواحي العَطل والقصور في الصفات.
وكثيراً ما تم توظيف هذا النقص لصالح الإلحاد كما عرفنا.
لكن من حيث التحليل ترد في هذا المجال تصورات مختلفة يمكن ادراجها في خمسة قد يجتمع بعضها مع البعض الآخر كعلامة على شدة النقص والقصور. وهي كالتالي:
أ ـ إن الإله لا يمتلك علماً شمولياً رغم خلقه للأشياء من العدم، فإما ان يكون علمه كلياً من دون علم بالجزئيات، على شاكلة ما ذهب اليه الكثير من الفلاسفة القدماء من أمثال الفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وغيرهم، أو ان لا يكون له علم بغيره اطلاقاً، كالرأي الذي يعود إلى ارسطو. ورجّح بعض المعاصرين بأن الإله تام العلم وكلي المعرفة، رغم انه عاجز عن التنبؤ بالأحداث المستقبلية المتوقفة على الإرادة الحرة للبشر، ضمن ما يسمى بنظرية الإيمان المنفتح.
وهي الفكرة التي مال اليها الباحث اللاهوتي دانيال سبيك.
ب ـ إن الإله ليس كلي القدرة، فإما ان تكون قدرته معدومة تماماً على شاكلة رأي الفلاسفة القدماء، أو انها مقيدة، رغم انه يخلق الأشياء من لا شيء.
ج ـ إن الإله ليس كلي الخير، فإما ان يكون شريراً تماماً أو ان خيريته محدودة.
د ـ إن الإله غير مبال لما يجري في خلقه، شبيه بما قرره الفلاسفة القدماء من قاعدة (عدم التفات العالي للسافل)، وهو بذلك ليس بخير ولا شرير، لكن مع فارق ان تلك القاعدة قائمة على أسس حتمية لا مجال فيها للقدرة وحرية الاختيار. أو مثلما لا نلتفت نحن البشر إلى ما نسببه من بعض الألم في ذبح الحيوانات التي نأكلها، أو قتل للحشرات الصغيرة مثلاً من دون مبالاة. رغم انه يرد في هذا المجال إشكال، فلو ان لهذه الحيوانات والحشرات شيئاً من الادراك العقلي لاعتبرتنا أشراراً في تعريضها للألم، أو سلبها الوجود؛ ما لم تجد حياة أفضل. لذا لا تختلف هذه الفقرة عن الفقرة التي سبقتها.
هـ ـ إن الإله في حاجة للفعل الأزلي المتطور، إذ بدون ذلك يصبح عاطلاً عن الفعل والخلق، فهو بحاجة إلى فعله في خلقه مثلما ان خلقه بحاجة اليه.
وهو يذكّر ببيت شعر لإبن عربي:
فيحمدني وأحمده ويعبدني فأعبده
هذه هي تصورات الافتراض الثالث.
يلاحظ انها غير معقولة.
ذلك اننا لو افترضنا بأن الإله قد خلق كل شيء من العدم فما الذي يمنعه من خلق ما هو خير محض من دون شر طالما ان الخلق هو من العدم التام، والعدم متساو، لا فرق بين ان يكون موضوعاً لخلق هذا أو ذاك؟
ولو فرضنا ان النقص في العلم الإلهي، كيف نفسر الدقة العظيمة للكون وهي قائمة على هذا العلم؟
وحتى لو افترضنا ان الإله لا يعلم سلفاً بمصائر ما يفضي عن الإرادة البشرية الحرة، فذلك لا يمنع من ان يكون له علم كلي بما يسفر عن مجمل الارادات البشرية، شبيه بمن يرمي الف قطعة زهر متكافئة الوجوه، فسوف يعلم مجملاً ان نسبة ما سيظهر لكل وجه هو السدس، رغم انه لا يعرف على نحو التشخيص ما ستسفر به العملية لكل قطعة فردية.
أما لو فرضنا أنه لا يعلم أي شيء يتعلق بمصائر مخلوقاته الحرة سلفاً، سواء على نحو الجزئيات أو على نحو ما هو كلي، ففي هذه الحالة يصبح خياره قائماً على المغامرة والمقامرة، وهو ما لا يفعله حكيم.
هذا ناهيك عن ان من الشر ما لا يتوقف على الإرادة البشرية الحرة، وهو ما يعرف بالشر الطبيعي أو الوجودي.
كذلك يمكن ان يجاب على التصور المتعلق بالقدرة المقيدة، فطالما ان قدرة الله مشهودة في دقائق الأمور الكونية فما الذي يمنعه من ان يخلق من العدم كل ما هو خير لخلقه؟
أيضاً فإن العناية الإلهية الدقيقة كما نراها في خلقه لا تدع مجالاً للانتقاص من خيريته.
كيف لا؟
وهو غني عن فعل الشر، خلافاً لما يحصل عندنا نحن البشر.
بدليل الايه (ان الله لايأمر بالفحشاء …)
وعليه فالعناية دالة على انكار صفة الخبث وعدم المبالاة لما يحدث لخلقه من نقص وشرور. فلو ان قدرته كانت متعلقة بالخلق من العدم المحض فسوف لا نجد للشر من أثر؛ لخيريته التامة.
يبقى الإشكال المتعلق بحاجة الإله الدائمة إلى الخلق المتطور، فيمكن الاجابة عنه بأن الخلق من العدم لا يمنع مثل هذا الفعل على الدوام من دون حاجة لتعريض مخلوقاته لصنوف الشر والمعاناة ، هذا كل ما يخص تصورات الافتراض الثالث.
* الافتراض الرابع:
يعترف بوجود مادة أصلية أزلية جرى عليها الخلق من قبل الإله، ناكراً امكانية ان يكون الخلق قد نشأ من العدم المحض، بيد ان الإله رغم ذلك لا يمتلك صفات تامة، فهناك نقص في صفة أو اكثر، سواء من حيث العلم أو القدرة أو غيرهما، الأمر الذي يفسر لنا علة حدوث الشر.
لكن هذا الافتراض لا يمتلك مبرراً في عزو النقص إلى الصفات الإلهية رغم وجود مادة مستقلة.
فالعناية الإلهية البادية في خلقه تمنع من جعل هذا النقص عائداً إلى الذات الإلهية وليس المادة المستقلة التي جرى عليها الخلق. فهي أولى بهذا القصور، وبسببها جرى الخلق المتطور المقتضي للشر، حيث من المحال تجاوز الأخير لوجود هذه المادة القاصرة ، وهو المعنى الذي نرجحه كما يبديه الافتراض
*الافتراض الخامس :
مضمون هذا الافتراض انه يعترف بوجود شيء منفصل أو مادة أصلية مستقلة هي ما جرى عليها الخلق، لكن قابليتها محدودة، فرغم كمال الصفات الإلهية من العلم والقدرة والعدالة والرحمة ومجمل عناصر الخير الأخرى؛ فإن ما تمخض عن صنعه كان متأثراً بوجود هذا القيد من المادة القاصرة.
فالثغرة الواردة في الشر لا تعود إلى نقص في الصفات الإلهية، بل إلى عجز المادة التي تم صنع الخلق منها، خلافاً للافتراض الرابع الآنف الذكر.
اذن الشر مصدره المخلوقات وليس الخالق
يتبع ان شاء الله