تأثير فراشة المثقف
كتب سمير ألحيان إبن الحسين
المثقف في هذا العصر بين نارين … سندان الإلتزام و مطرقة الطموح الثقافة دم يجري في شبكة شرايين الحضارة، فلا حضارة من غير ثقافة، والثقافة سابقة على الحضارة وهي التي خرجت الحضارة من رحمها. والثقافة توحي الينا وترشدنا الى الأصل وهو المثقف، أيهما أسبق، لا شك أن الانسان هو الأسبق على كل ما هو انساني، مثل الكلام واللغة و ابتكار الكتابة. والثقافة تدرج من التفاعلات الداخلية في ذات الانسان من نطق مشتت الى كلام كامل المعنى، ومن هذا الكلام ذو المعنى كان بذرة الثقافة. المثقف، إذًا، سبق الثقافة والتاريخ معاً، فلولا بذرة الكلام ما كانت ثقافة و لا كان تاريخًا… الانسان المثقف الاول تفاعلت نفسه، التي تعارك الحياة من أجل الحياة، مع عقله، الذي كان مركونًا في جمجمة الكسل، فصحا العقل من غيبته الكسولة و تطعمت من خبرة الحياة بطاقة الذكاء … الانسان البدائي عندما رأى شرارة من تصادم قطعة حجر مع قطعة أخرى اهتزت نفسه وسرى دبيب الاهتزاز الى المخ فانطلق بالتامل ومن ثم التفكر في مظاهر الوجود، وهذا الانسان البدائي الاول الذي أسرته الشرارة هو المثقف الاول … لا بد من شرارة حتى تكون الصحوة، وثم الوعي بالذات و بالوجود، ومن ثم تتابع الاكتشافات وتنامي الخبرات، و الاحساس بمسئولية الحفاظ على المكتسبات، ويكون العبء الذي يحمله المثقف على عاتقه طوعًا.
المثقف هو المعلم الاول وهو المؤسس الاول لكل ما هو علم ومعرفة وهو الناقد الاول، وبالمحصلة، منطقًا وجدلًا و واقعًا، هو الفيلسوف الاول … الفلسفة هي نهج المثقف الذي لا يمكن أن يؤدي واجباته الثقافية والانسانية من غير فلسفة… الفلسفة تستند على دعامتين أساسيتين هما الاستفسار والتساؤلات من جهة، والشك والنقد من جهة أخرى، و بهما يسير مخترقًا كل الحواجز وداخلًا في كل المجالات دون خوف ولا وجل، وقد يظن كثير من الناس أن المثقف وقح يتدخل فيما لا يعنيه، والواقع أن المثقف يرى نفسه ملزمًا، من موقع الالتزام بالحق والعدل الانساني، أن يتدخل في كل شئون الانسان وكذلك الأرض بما حملت.
فلا شك إذًا أن تكون للمثقف تلك المكانة المميزة التي تجعله موضوعًا حيًا ساخنًا بين طرفي التاييد والتنديد، وبينهما ذاك الفطن الحذر مما يمتلكه المثقف من قدرة التاثير في الناس من حيث كشف الحقائق المغيبة عنهم وتبعات هذا الكشف في تغيير المواقف او تحويل اللامبالي الى انسان مهتم يبالي. المندد ينظر اليه مرعوبًا ويود سحقه، وعادة يكون التنديد من قبل رموز سياسية تدير شئون دول استبدادية، وخاصة الانظمة الايديولوجية مثل النازية و الشوفينية و القومية المتطرفة والطائفية الاقصائية … وقد عبر عن هذا الرعب وزير الدعاية في المانيا النازية بول يوزف غوبلز عندما قال بحنق وغضب بانه عندما يسمع كلمة مثقف يضع يده على زناد مسدسه … والمريب كذلك هو السياسي الذي يحترم و يقدر المثقف و لكن الشك يتملكه في مدى الأمانة التي يمكن للمثقف أن يلتزم بها أمام المغريات المادية التي يمكن أن تحوله الى اداة دعائية و اعلامية طيعة بيد الأعداء، وقد عبر عن هذه الريبة قائد الثورة البلشفية ومؤسس الدولة السوفياتية فلاديمير لينين بقوله المشهور: «المثقفون هم اكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم الأكثر قدرة على تبريرها (تبرير الخيانة)». ومن المثقفين أنفسهم وبينهم كبار المفكرين أمثال ادوارد سعيد الذي كان كذلك يرتاب من المثقفين وله مقال مطول تحت عنوان «خيانة المثقفين»، ويخص بالذات المثقفين العرب الذين يجندون أقلامهم ضد قضاياهم، او أولئك الذين يعيشون في أبراج عاجية يحصرون المثقف بثقافة مختزلة في فنون الأدب و جمالية الفن بعيدًا عن أي التزام بقضايا الانسان، والمفكر الدكتور ادوارد سعيد يعطي أهمية خاصة بالقضية الفلسطينية وقضايا الانسان الشرقي بشكل عام.
اما الدكتور والأديب والمثقف الملتزم يوسف إدريس فإنه يعبر عن محنة المثقف أمام هجمة الإعلام الرسمي المضاد لكل ما هو ثقافة انسانية جادة ومثقف ملتزم. في بداية الثمانينات من القرن الماضي، و بعد عقد من الانفتاح السياسي – التجاري على الغرب بشكل شبه كامل، حصل تراجع محسوس في البنية الثقافية المصرية خاصة و العربية عامة، مما دفع الدكتور يوسف إدريس أن يكتب مقاله المشهور «أهمية أن نتثقف يا ناس»، وفعلاً كان المقال ضربة في صميم الأزمة الثقافية، إذ أن هذا المقال أغضب وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى للثقافة و رد على المقال … وأمام غضب الوزير هَبَّتْ الحركة الثقافية كلها وحتى القراء العاديين يرفضون الرد الغاضب من الوزير ويشجبونه … فكان جدلية التفاعل بين المقال و غضب الوزير وهبة الحركة الثقافية نصرًا مبينًا مشرفًا للثقافة وللمثقفين الملتزمين.
أمام جميع القضايا يكون للمثقف حضور في أذهان الناس، في حالات المحن والاسترخاء، وفي حالات الهزيمة و الانتصار، وفي حالات تعسر الحلول أمام القضايا الانسانية المتعددة، تشير الأصابع الى المثقف واخوته واخواته المثقفين … أين المثقف من كل ما جرى ويجري؟.
من جانب آخر، من الأهمية بمكان، أن ننظر الى المثقف من منظار التزاماته الشخصية والمعيشية البحتة وقدراته على الاستجابة لها امام التزامه لقضايا الانسان، فهو انسان شأنه شأن أي انسان آخر. المثقف شأنه شأن أي انسان غير مثقف وحتى غير متعلم … عنده طموحاته التي يأمل تحقيها، وهي عند المثقف الملتزم رسالته في الحياة للمساهمة في حل قضايا الانسان، ويعيش مأزقًا داخليًا في ذات نفسه عندما يجد نفسه أمام خيارات قد تكون أسوأها على حساب رسالته ومبادئه أمام الخيار المغري الذي يضعه على سلم الرفاهية في الحياة تاركًا أمر الرسالة لأنها مرهقة ومنكدة للحياة، ولكن يستمر بصفته مثقفًا في حدود المفاهيم المغلقة التي تقول بـ(الأدب من أجل الأدب والفن من أجل الفن) ويعيش في برجه العاجي الذي يسره له خيار الرفاهية، وهكذا يجرد ذاته من منغصات قضايا المجتمع و الوطن والانسان … واذا ما مالت نفسه واستقر ذهنه و اطمأنت روحه الى الخيار الصعب وهو الثبات و الاستمرار في حمل الرسالة والالتزام بقيم المبادئ و الاستعداد الطوعي الذي لا تراجع عنه للتضحية بالرفاهية التي قد تكون قاب قوسين او أدني من متناول يده، فإنه يضع نفسه في محنة دائمة وهي «محنة
المثقف الملتزم» … من الخيارات الصعبة التي يواجهها المثقف، هي تلك التي عليه أن يختار بين الالتزام الخاص والالتزام العام، و اذا ما اختار أحدهما يكون بالضرورة قد ضحى بالآخر …