أخبار عاجلة
Oplus_16908288

انتظار مفتوح

انتظار مفتوح

بقلم/ نورالدين بنعيش

25/08/2025

قرب النهر، في قرية لم يتبقَّ منها سوى هياكل مهدمة، وذكريات تحوم فوق الركام كالأشباح، سقط كل من فيها صريعًا، إلا من شاء الله له النجاة. حتى الكلاب الضالة لم تُعفَ من نصيبها من النار والدمار.

إبادة عشوائية، تتدثر بشعارٍ بائس: “الموت للجميع من أجل التطهير العرقي”، شعار غُرس في صدور جيش لقيط ضال، لا يعرف سوى الخراب.

في خضم هذا الفناء، كان قلب عايد، الشاب الوسيم، يخفق برغبة جامحة في الحياة. كان يرى نفسه واحدًا من أولئك الذين يريدون أن يؤسسوا نواة صغيرة؛ أسرة تبذر الحياة في أرض أُريد لها أن تموت، وتُبقي اسم القرية حاضرًا بأهلها. جاء إلى ضيعة أبي غالية عند الظهيرة، بعد أن أنهى عمله، ترافقه حافظة، رفيقة روحه والموعودة لتكون شريكة عمره. كان يحمل في جعبته بشرى يراها أجمل ما قد يُهدى.

وفي المكان ذاته، كان أبو غالية، الرجل الطاعن في السن، يتجول بين الخراب. يتأمل التراب وقد استحال رمادًا بفعل الحرب. أثقله الحر ولفحته الشمس، فجلس ليستريح تحت شجرة وحيدة، بدت كأنها تنتظر من يملأ وحشتها.

أطال الشيخ التفكير في وطنٍ قُطعت أطرافه، وتاه أبناؤه في مفترق الطرق. وطن مهجور، تُرك جسده للذباب ينهشه، وكأنه عسل أُريق على صخرة. رفع بصره نحو أغصان الشجرة اليابسة، فتمتم:

“تشبه ذراعيّ النحيلتيناللتين… لم تعودا قادرتين على حمل السلاح.”

اشتد عليه السعال حتى كاد يقتلع روحه، فذكّره بجسده المتهالك وتصلب شرايين رئتيه. نيكوتين التبغ أنهكه، وأعراض ضيق التنفس كانت تنذره بأن الموت لم يعد بعيدًا. ضرب جذع الشجرة بيده المرتعشة، ثم صرخ بصوت مبحوح:

“أريد أن أرتقي إلى السماء بطلًا؛ ميتًا تحت الأنقاض أو بالرصاص كباقي أهل قريتي ، لاأرضى أن أموت في فراشي كما يموت البعير.”

وما إن أطلق صرخته حتى قطع مجرى أفكاره مشهدُ شابين يقتربان من الضيعة. هدأ قليلًا، واتجه بخطوات واهنة نحو حافة نهرٍ جفّت مياهه. كان نهرًا يفيض بالحياة يومًا ما؛ فيه تستحم نساء القرية مع شروق الشمس، وترتع الأغنام في مروج خضراء ثم ترتوي من مياهه الجارية.

أسند أبو غالية ظهره المقوس على صخرة، تحمل في ذاكرتها آثار زوجته مآثر التي لم تزل صورتها تتراقص أمامه: امرأة مغمورة بالحيوية، لا تهدأ كفراشة، تغسل وتغني، ثم تأتيه بفنجان قهوة وهي ترقص على إيقاع أغنية تراثية بصوتها الرخيم:

“عبي الإبريق للقايد… عبي الإبريق.”

الماضي كان ظلًا لا يفارقه. كل ذكرى تهاجم حاضره، فتغشى عينيه الذابلتين بدمع لا يريده أن يفيض. أغمضهما لحظة، لكنه عاد ليفتحهما على صوت عايد الذي يناديه، مستأذنًا بالجلوس تحت الشجرة.

هزّ الشيخ رأسه إشارة بالقبول. لقد اعتاد أن يرى في هذا المكان شبابًا يحلمون بمستقبل أفضل، يأتون لتبادل الهموم والآمال. في ضيعته، وشجرته بالذات، كانت معبدًا للعشاق، يؤدون فيه صلاتهم ويرتلون تسابيح حبهم.

جلس عايد، وأمسك بيد حافظة بحنان يغلفه الخجل، فيما كانت هي تعبث بوجه التراب بعصًا يابسة. تمنّت في سرها لو يبوح بما يخفيه قلبه، فقد كانت لهفتها سابقة لبوحه. قلبها يخفق حيرة وانتظارًا، أما عايد فقد كان يتساءل في داخله: “كيف أفاتحها في الموضوع؟”

تأمل وجهها البشوش، وكاد يتيه في شروده، لكنه جمع أنفاسه أخيرًا، وكسر جداري الصمت والتردد قائلًا:

“سأغيب عنك قليلًا يا حافظة.”

تهلل وجهها فرحًا، وقالت بعفوية:

“أخيرًا يا عايد… تم قبولك في شركة الطيران البريطانية!”

قهقهت بفرح، فأثار ضحكها انتباه الشيخ، الذي ابتسم كأنه يبارك الخبر. أضافت بمرح: “أوشكنا على الانتهاء من بناء قفصنا.”

ابتسم عايد، ثم ربت على كتفيها قائلًا:

“نعم، تم قبولي… لكن هنا، في وطني حيث اخترت البقاء.”

عانقته طويلًا، كأنها تريد أن تسرق من الزمن آخر لحظة. وبصوت متهدج بالنشيج همست:

“أنا في انتظارك… فعدني أن تعود إلي.”

مرّت الشهور، وحافظة تعود كل مساء إلى الشجرة التي جمعتهما. تجلس تحت ظل الاغصان اليابسة تنتظر عايد انتظارًا أثقل قلبها، تصغي إلى الريح كأنها تحمل في أنفاسها وقع خطواته..

شاهد أيضاً

يا. ظبية الدار …. من شعر الشباب

يا. ظبية الدار …. من شعر الشباب عبدالكريم عثمان ابو نشأت عمان الاردن     …