أخبار عاجلة
Oplus_16908288

المُفَكِّر المُختَل

Oplus_16908288

المُفَكِّر المُختَل

روعة محسن الدندن / سوريا

 

الفكر الحقيقي، في جوهره، هو ما يرفع الإنسان إلى مستوى إنسانيته، لأننا كائنات عاقلة، نملك المشاعر والأحاسيس، ونتأمل في سبب وجودنا. الفكر لا يُقاس بكمية الكلام، ولا بالألقاب الممنوحة، بل بقدرته على توجيه العقول نحو الفهم، والوعي، والبحث عن الحقيقة. لقد ابتكر غوتفريد لايبنتس مصطلح أبجدية الفكر الإنساني، كأداة عالمية لتحليل الأفكار وتفكيكها إلى عناصرها الأساسية، وإعادة تركيبها بطريقة تسمح للإنسان بفهم العلاقات بين مختلف الأفكار، واستخلاص الحكمة منها. هذه الأبجدية ليست مجرد نظرية؛ إنها منهج لفهم العالم والإنسان، وفهم كيف تتولد المعرفة وتتصاعد إلى حكمة عملية، قادرة على تطوير المجتمع وتحقيق العدالة.

 

لكننا اليوم نعيش في زمن تخمة فكرية وألقاب مشوهة. فقد أصبح لقب “المفكر” يُمنح لمن يدّعي اكتشاف الحقائق المزورة، أو لمن يرفع شعارات حياة الغاب، ويصبح الإعلام أداة لترويج كل ما يقوله هؤلاء على أنه الحقيقة المطلقة، حتى لو كان منافيًا للعقل والمنطق وللحقائق الثابتة. تكثيف الدعوات لهؤلاء، وإعطاء المنابر لهم، لا يولد إلا انحراف الفكر الجماعي، وحقن المجتمعات بما يريده أصحاب القرار، فتتحول الثقافة إلى مجرد أداة للتحكم والسيطرة، لا إلى سبيل للمعرفة أو التطور.

 

المفكر الحقيقي ليس مجرد مثقف يتبع سكة قطار معدّة مسبقًا للوصول إلى ما يريده الآخرون، ولا مجرد فيلسوف يمتلئ كلامه بالأقوال المدهشة دون أن يلمس واقع الناس. المفكر الحقيقي هو من يملك الجرأة على مواجهة الحقائق، ويدفع ثقافته نحو الإنسان، ويقف بالوعي والمبادئ، لا بالشهرة أو المال أو التقرب من أصحاب الكراسي. إنه من يرفض أن يُستغل فكره لتبرير الظلم، أو لتجميل الباطل، أو لتثبيت أوهام سلطوية تحت شعارات براقة.

 

لقد شهد التاريخ أمثلة واضحة على المفكرين المختلين، الذين استغلوا المعرفة والثقافة لأغراض شخصية أو سياسية، فحوّلوا الفكر من وسيلة للنهضة والحرية، إلى أداة لخيانة الأمانة العلمية والفكرية والوطنية. من هؤلاء من استغل العلم لتبرير الاستبداد، ومنهم من جعل الفلسفة وسيلة لتضليل الجماهير، ومنهم من استخدم الأدب لتزيين الكذب. هؤلاء جميعًا أضروا بالمجتمع أكثر من أي قوة خارجية، لأن الضرر الأكبر يأتي من الداخل، حين يبتلع الناس الأفكار المغلوطة بحجة أنها صدق.

 

إن استشراء المفكر المختل يؤدي إلى انحراف جماعي للفكر، ويحوّل المجتمع إلى أرض خصبة للتلاعب بالرأي العام، وطمس الحقائق، وإخفاء الوقائع وراء شعارات براقة وخطابات فارغة. الفكر، إذا كان حقيقيًا وإنسانيًا، يرفع الإنسان ويحرره؛ أما الفكر المختل، فيسحقه ويحوّله إلى أداة، تُستغل لتوجيه إرادته، وتطويع وعيه، وتحويله إلى أداة بيد من يسعون للحفاظ على السلطة أو المصالح الخاصة.

 

في زمن كثرت فيه الألقاب الفارغة، يجب على كل قارئ، وكل مثقف، وكل شخص يسعى للمعرفة، أن يميّز بين من يفكر حقًا، وبين من يتلاعب بالثقافة لتبرير الباطل. إن مهمة المفكر الحقيقية ليست مجرد إنتاج أفكار، بل حماية الحقيقة، ومساءلة السلطة، وتوجيه الفكر نحو الإنسان، وإعادة الإنسان إلى مكانته الطبيعية ككائن عاقل قادر على التمييز بين الحق والباطل.

 

الفكر المختل ليس تهديدًا نظريًا فقط، بل هو خطر واقعي على مستقبل المجتمعات، لأنه يفسد أذهان الناس، ويقوض الثقة بالعلم، ويحوّل الثقافة إلى سلعة للبيع والشراء. علينا أن ندرك أن الفكر لا يُقاس بعدد الأقوال، ولا بكمية الشهرة، بل بقدرته على خدمة الإنسانية، والوعي، والحرية. ومن يخرج عن هذا المبدأ يصبح مفكرًا مختلًا، خطيرًا، ومضللًا، مهما امتدت شهرته أو عظمت مكانته في المنابر الإعلامية.

شاهد أيضاً

امراض الشيخوخة هى شباب متأخر قليلا 

امراض الشيخوخة هى شباب متأخر قليلا  كتبت د. ايمي حسين  الكثير من الأمراض ليست في …

محافظ الجيزة: إنشاء إدارة للأسواق لضبط المنظومة وتعزيز الرقابة والقضاء على العشوائية

محافظ الجيزة: إنشاء إدارة للأسواق لضبط المنظومة وتعزيز الرقابة والقضاء على العشوائية كتب/سيد عبدالسميع  أصدر …