القـدر
عبد الكريم احمد الزيدي
العراق/ بغداد
……………..
تسارعت خطواتها وهي تجر خلفها حقيبة سفر لاتبدو لحاجياتها الخاصة لوحدها وهي تشخص بعينيها في كل ناحية وكأنها صقر يبحث عن دالته في بقاع من الحجر والأدغال والشجر ..
ظلت حقيبة يدها التي تركتها تتمايل كخصر راقصة بين جنبيها تتحسسها بين حين وآخر لتطمئن على ما فيها.
في الناحية الاخرى هو يسرع في خُطاهُ بحقيبة يد صغيرة لا تكاد تجمع بين ثناياها الا الخفيف وربما اوراقه وحاجياته الخاصة.
تملكه القلق والخوف وشيء من الارتباك وهو يتجه الى ضالته ليتأكد من وقت مغادرته وان كان قد حضر مبكرا على موعده بساعة او اكثر ، اخرج نظارة عينيه وتطلع من خلالها الى شاشة كبيرة تؤشر فيها كل الرحلات وأرقامها ومواعيد مغادرتها .
كانت باحة المطار التي وصلا اليها الاثنين معا في وقت متقارب والحركة في هذه الساعة من النهار تكاد تكون في أوجها لكثرة المسافرين بين مغادر ومودع وواصل .
ولكنها لم تزل تجري بخطو سريع مرتبك وكأنها تغادر الارض لأول مرة فهي لم تتعود السفر بالطائرات ولَم تكن لتصل هذا المطار لولا الظرف والحالة التي فرضت عليها.
تقربت منه تتوجس بحذر وخوف وهو قد جلس للتو على مقعد خصص للانتظار بعد ان أنهى إجراءاته ليلتقط من كيس بقربه قطعا من البسكوت والكعك الذي بدأ بالتهامه ليزيح عنه او ليلهي أعصابه وتوتره بعد ان رمى اخر سيكارة كانت في فمه قبل دخوله بوابة المطار الخارجية..
لم يكن يهمها منه تصرفا او نظرة ترضي بها ذاك الكابوس الذي حط على صدرها وهي تتابع اجراءات سفرها او حتى التفاتة رضى وقبول ، ولكنها كانت تطمع منه اولا ان ينصت اليها ولحديثها الذي تعطل لسانها حتى ان يبدأ به وهي تقترب منه..
كان في منتصف عمره رجلا أنيقاً يجلس مجلس الكبار والمتعلمين وينظر من خلال نظارته الى هاتفه الخلوي كل حين يقرأ فيه تارة ويكتب اخرى ولَم يكن ليعير احدا انتباهه الى ما حوله والى مايدور بقربه..
نهارك سعيد سيدي..
بدأت تحدثه سيدة جميلة بان عليها الوقار والأناقة وقد انزلت عن عينيها نظارة شمسية بلون فاتح وعينيها تبرق قلقا وتوترا وزاد في حراجتها ذاك الطلب الغريب الثقيل الذي جاءت لاجله..
سيدي كما ترى فأنا عازمة للسفر الى نفس وجهة مغادرتك كما استعلمت من موظفي الشحن الجوي الذي مررت بهم قبل قليل ، ولقد زادني أمانا انك تسافر لوحدك ولا تحمل من متاع السفر الا القليل، فأشاروا لي انك من يمكنك مساعدتي وانا في ظرف حرج لا أستطيع التأخر اكثر في وجهة سفري..
التفت اليها مندهشا بعد ان ترك هاتفه الخلوي ونزع نظارته ليتمعن في هذا الوجه وليستمع اليها والى طلبها .
أ تكلمينني سيدتي..
نعم سيدي الموقر ، فقد فاتني في الزحام وانا قاصدة المطار رحلتي الى نفس وجهتك وليس امامي خيارا الا ان استاذنك بمقعدك على الطائرة المتوجهة بعد ساعة من الان ، ولَم يدعها تكمل حديثها حتى رد عليها قائلا:
ولكن سيدتي هذه مواعيد واجراءات اصولية وقانونية وسجلات بالمسافرين وعناوينهم ، وسيكون من المستحيل استبدال المقعد المخصص لي على متن الطائرة هذه الى شخص غيري !!.
نعم .. نعم اعرف هذا جيدا وهي تقاطع حديثه بأدب ولكني في حالة طارئة لا أستطيع التأخر فيها لحجز مقعد بديل في طائرة اخرى ولنفس الوجهة في هذا الوقت الا لساعات قادمة او ربما لن أستطيع تدبر حالي هناك فانا غريبة ولا اعرف في المدينة تلك احدا الا شخصا ينتظرني في قاعة استقبال المطار..
بدا الموضوع غريبا له وهو لا يعرف هذه السيدة ولَم يختبر صدقها او شيئا من طلبها، ولكنه تعاطف قليلا معها قبل ان يسترجع لذاكرته ولسانه ليقول لها ، وانا ايضا سيدتي في عجل من امري فانا لم انم ليلتي جيدا بعد مكالمة من اخ وصديق قديم لي وهو يحتضر وأتمنى ان الحق به قبل فوات الأوان ..
تعقد المشهد أمامها وارتجفت قدميها وهي منحية تكلمه وتراجعت قليلا لتستدرك الموقف ثانية وتبدا الحوار من جديد..
اعتذر منك سيدي كثيرا وأتمنى ان لا اكون قد ازعجتك وأخذت من وقتك ، فانا لا اجيد التصرف وخاصة في موقف كهذا..
لا عليك.. لا عليك
اطرق برأسه هنيهة ودار بعينيه الى حيث مكاتب اجراءات الشحن وموظفيها ونهض من مكانه بخفة وثقة وابتسم لها ليرافقها الى حيث الحل..
نهاركم سعيد سادتي ..
هذه السيدة جائتني بطلب ربما يبدو غريبا ولكنها ارادت موافقتي على ترك مقعدي المخصص في الطائرة للوجهة (…) المغادرة بعد قليل ، نظر اليها وهو يحادث موظفي الشحن ولا ادري كيف أساعدها ..
نعم سيدي تحدثت إلينا قبل قليل واشرنا ان تجدك لانك المسافر الاخير على مقاعد هذه الطائرة والتي صادف هذا الوقت اشغالها بالكامل على غير عادتها
لصعود وفد رياضي وطاقمه لحضور احتفال رياضي يقام سنويا على ارض المدينة حيث الوجهة المشتركة بينكما..
ابتسم مندهشا وهو يكلم نفسه لهذه المصادفة التي لو تاخر هو اول النهار لما استطاع الحجز على هذا التوقيت ، وما كان ليكون الاخير من بين المسافرين.
ليس لدي مانعا سيدتي ان اترك لك مقعدي المحجوز وانتظر لساعة والحق بطائرة اخرى الى نفس الوجهة ان كان هذا يساعدك ولا يسبب مانعا قانونيا او تبعة مالية او حساب اصولي..
ابدا .. ابدا
رد عليه موظف الشحن وسنتدبر امر التغيير في حالة موافقتك وقبول السيدة دفع غرامة الاستبدال لتأخرها عن موعد طائرتها الأصلية ، ومن حسن حظها ان الطائرة ستتأخر قليلا لأغراض الفحص والصيانة الدورية قبل اقلاعها، وبذلك تتمكن من إكمال اجراءات سفرها..
هنا انتهى كل شي وتوجه كل منهما الى وجهته ، وغادرت طائرتها لتصل الى من كان ينتظرها ويغلب الحظ ليتمكن من جمعهما بعد ان كادا يفترقان لولا القدر الذي اصاب ففلح..
اما هو فقد كان القدر له بالمرصاد بعد ان تاخر وصوله الى وجهته وظل صديقه المحتضر بلا امل ان يراه ثانية بعد ان سمع بان الطائرة قبل هبوطها تعرضت لحادث طارئ لم ينج من ركابها إلا الحطام.