بقلم: روعة محسن الدندن
العلمانية في جوهرها ليست ضد الدين، ولا دعوة للإلحاد، ولا عصا تُرفع على رؤوس المتدينين. وُلدت في أوروبا من رحم الألم والتاريخ، حين تحوّل الدين إلى سيف يفرض الطاعة، واختلطت الصلوات بالضرائب، وصكوك الغفران بأحكام الإعدام.
كانت صرخة لحماية الإيمان من استغلال رجال الدين، وحماية الدولة من أن تُدار بفتوى، ففصلت بين المقدس والسياسي، لا بين الإنسان وخالقه.
لكن حين عبرت العلمانية البحار إلى الشرق، تغيّر جلدها، واكتست ثوبًا مشوّهًا، فلم تعد تعني الحياد الديني، بل تحوّلت عند البعض إلى عداء صريح للإسلام، واستهزاء بالشعائر، وهجوم على الأغلبية باسم التنوير.
ظهر من يسمي نفسه “علمانيًا”، لكنه لا يمارس النقد إلا على دين الآخرين، يسخر من الحجاب والصوم والقرآن، ويصف الصلاة بالتخلف، ويُطيل الحديث عن “العقل” بينما يتوقف عند باب طائفته.
لا يتجرأ على مناقشة تاريخ كنيسته، ولا يسأل عن دورها في الحروب الأهلية، ولا ينتقد سلطتها الرمزية، بل يحيطها بصمت مقدّس، ويعود ليوجّه طلقاته نحو الإسلام وحده.
فهل هذه هي العلمانية التي بشّرت بها أوروبا؟ هل الحرية تعني أن تهاجم معتقدات الآخر وتلوذ بالصمت حين يخصك النقد؟ هل التنوير يُبنى على السخرية من شعائر الغير بينما تُمجّد تراثك بلا مراجعة؟
هذا النوع من “العلمانيين” ليس إلا نسخة مضادة لرجل الدين المتشدد، يؤمن فقط بما يقول ويقصي من يخالفه، يريد أن ينتصر لا أن يتحاور، وأن يُلغيك لا أن يفهمك.
الفرق الوحيد أن المتشدد يحمل نصًا مقدسًا، وهذا يحمل كتابًا فلسفيًا، لكن كلاهما يصادر العقل باسم الحقيقة المطلقة.
العلمانية الحقيقية لا تُهاجم الإسلام ولا المسيحية، بل ترفض احتكار الحقيقة وتحمي الضمير من أن يُستَغل. هي مساحة حرّة للكل، لا حلبة قتال ضد الأكثرية.
وإن أردنا لمجتمعاتنا أن تتقدّم، فلن نصل بشتم المآذن، ولا بالسخرية من الحجاب، ولا باتهام المتدين بالإرهاب، ولا بإقصاء دين الأغلبية من المشهد.
التنوير ليس صراخًا، ولا الحرية شتيمة، ولا التعددية تعني السخرية من المقدس.
من أراد أن يكون علمانيًا، فليبدأ من ذاته، ولينقد طائفته كما ينقد غيره، وليعرف أن الهوية الدينية للناس ليست عائقًا، بل جزءًا من تكوينهم الوجداني، ولا يمكن اقتلاعها بإجبار أو استعلاء.
ما نحتاجه هو علمانية عادلة تفصل بين الحكم والعقيدة، لا بين الإنسان وروحه. تحترم الإيمان دون أن تفرضه، وتصون الحرية دون أن تبتذلها.
في هذا السياق، يجب أن نتوقف عند قضية السنة في المجتمعات الإسلامية، فحين يُعاد تعريف العلمانية بشكل يطرحها كعداء للإسلام، تُستخدم أحيانًا كأداة لاستهداف السنة، باعتبارها العمود الفقري للفهم التقليدي للإسلام.
هذه “العلمانية” المشوهة لا تقتصر على فصل الدين عن الدولة، بل تتحول إلى آلية لقمع المعتقدات الإسلامية، وتهميش المؤسسات الدينية التي تمثل التراث السني، ما يؤدي إلى نزعات إقصائية لا تخدم التنوع الديني ولا التعايش المجتمعي.
لكن السنة، كتراث فقهي وروحي، ليست عائقًا أمام التقدم أو العلمانية الحقيقية التي تحترم الحقوق والحريات، بل هي جزء من هوية إسلامية متجذرة لا يجوز إنكارها أو محاربتها.
العلمانية التي ترفض الاعتراف بالتنوع الفقهي وتفرض وصايتها على السنة، لا تمثل سوى تحزّب طائفي مقنع ووجه جديد للتحامل، لا مشروع حرية ديمقراطية.
العلمانية الحقّة هي التي تحمي حرية المعتقد والتعبير، وتكفل حقوق كل الطوائف، وتبني مجتمعًا يحترم التنوع والاختلاف، بعيدًا عن الاستعلاء الفكري أو القمع الرمزي لأي فصيل ديني.
أما إذا أرادت العلمانية أن تكون مصدراً للتنوير، فعليها أن تبدأ بنقد ذاتي واعتراف بحقيقة التعددية الدينية، لا بمهاجمة السنة أو الإسلام تحت مسميات التنوير.
العلمانية والتنوير الحقيقيان هما دعوة للتعايش، لا للحرب الثقافية، ودعوة لتفكير بلا كراهية، ونقد بلا تحامل، وكتابة بلا تحوّل إلى نسخة أخرى من جلاد قديم.