بقلم / محمد كمال الصعيدي
في تاريخ الأمم هناك أيام ليست مجرد تواريخ عابرة بل هي نقاط تحول جذرية يعاد بها تعريف الذات الوطنية. ويظل السادس من أكتوبر عام 1973 محفوراً في وجدان المصريين والعرب، ليس كذكرى لمعركة عسكرية فحسب، بل كرمز لانتفاضة الإرادة والكرامة التي انتشلت الأمة من أنقاض الهزيمة إلى قمة النصر. كانت تلك اللحظة هي شهادة ميلاد جديدة لقوة مصرية لا تعرف اليأس.
تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”
ما حدث في السادس من أكتوبر لم يكن مجرد عبور لقناة السويس، بل كان عبوراً من حالة اليأس إلى حالة الثقة المطلقة بالنفس. فبعد سنوات من الاحتلال المرير لجزء غالٍ من أرض سيناء، واستناد العدو إلى خط بارليف المنيع الذي وُصف بأنه قلعة لا يمكن اقتحامها، جاء قرار الحرب ليكون رداً مزلزلاً على جبروت الغطرسة.
لقد اعتمدت إسرائيل على نظرية “الأمن المطلق” القائمة على التفوق الجوي والتحصينات المادية، لكن العسكرية المصرية، بعبقريتها في التخطيط وسرية التنفيذ، وبفكرة استخدام خراطيم المياه لفتح ثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف، حطمت هذه الأسطورة في ست ساعات فقط. هذا الإنجاز أثبت للعالم أن العامل البشري، ممثلاً في جندي مصري مؤمن بقضيته، هو القوة التي لا تُقهر حقاً.
الوحدة الوطنية: البطل الحقيقي
لم يكن النصر وليد كفاءة القوات المسلحة وحدها، بل كان نتاج تلاحم وطني غير مسبوق. ففي زمن الحرب، اختفت الفروقات وذابت الخلافات، وتوحدت الأمة المصرية بالكامل خلف جبهتها المقاتلة.
يُذكر التاريخ أن الجريمة انخفضت إلى “صفر تقريباً” خلال فترة الحرب، وهي دلالة عميقة على أن الإرادة الجماعية للشعب كانت منصبة على هدف واحد: استرداد الكرامة والأرض. الشعب كان هو الجناح المدني للنصر، يمد الجبهة بالدعم المعنوي واللوجستي، ليؤكد أن الحرب كانت “ملحمة شعب” قادراً على تحقيق المستحيل في أصعب الظروف.
أكتوبر: نبراس للمستقبل
إن انتصار أكتوبر لم يغير ميزان القوى العسكرية في المنطقة وحسب، بل غير مسار التاريخ السياسي. فقد مهد الطريق أمام مصر لاسترداد كامل ترابها الوطني بالمفاوضات والتحكيم الدولي، وصولاً إلى استعادة طابا، مؤكداً أن الحرب كانت وسيلة للسلام العادل.
تظل حرب أكتوبر نبراساً للأجيال القادمة، تُعلمنا أن قوة الأمة لا تُقاس بحجم عتادها فقط، بل بـ “نوعية المقاتل”، وبقوة إرادته وعزيمته الوطنية. إن الدروس المستخلصة من هذه الملحمة تدعونا دائماً إلى استلهام روح التضحية والتخطيط الدقيق والوحدة لمواجهة أي تحديات تُهدد أمننا القومي ومستقبلنا المزدهر.
في كل عام، عندما تُرفع رايات العزة في سماء مصر، نتذكر أن هذا اليوم ليس مجرد احتفال بالماضي، بل هو تجديد للعهد بأن إرادة هذا الوطن العظيم ستظل دائماً قادرة على قهر المستحيل.