بقلم رجب أبوالحسن
من حكمدار بوليس العاصمة إلى السيد أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس: لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل، الدواء فيه سم قاتل،عند سماعك هذه الرسالة، بلغ الحكمدارية فورا، وعلى كل من يعرف احمد إبراهيم المذكور المبادرة في تحذيره أو إبلاغ الحكمداربة. دي رسالة قامت بنشرها الإذاعة المصرية بناء على طلب حكمدار العاصمة -مدير امنها يعني وحكمدار على جنب كده كلمة تركية أصلها عربي معناها حاكم الدولة -هدف الرسالة زي ما هو واضح هو تحذير مواطن من تناول دوا معين أخطأ الصيدلي في تركيبة، فأضاف له عن غير قصد مادة سامة، اللي كانت ممكن طبعا تودي بحياة المسكين أحمد إبراهيم لولا حسن تصرف حكمدار العاصمة، الرائع يوسف وهبي ،ما هو ده كان موضوع فيلم حياة أو موت بطولة عماد حمدي، ويوسف بك وهبي..
اشترك كمان في الفيلم الفنانة مديحة يسري، الفيلم حصل على جائزة أفضل فيلم أيامها – 1954 – بالإضافة انه اشترك في مهرجان كان وده مهرجان عالمي الصيت، كل ده ومافيش مشهد واحد مبتذل، يعني لا تلوث بصري، ولا سمعي، لكن مش هو ده لب مقالي، الرسالة المذكورة سالفا وهي: لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل…إلى آخر الرسالة، هي الدافع وراء مقالي ده، بإعادة صياغتها، الرسالة دي محتاجة تتكتب في منشورات تتوزع يدا بيد لكل مواطن، مع شوية تعديلات، يعني هنقول: لا تشاهد الدراما المصرية، فهي السم القاتل، و على كل مسئول يمكنه إيقاف هذه المهزلة ان يتخذ عاحلا هذه الخطوة الحتمية وإلا أودت ما تسمى كذبا دراما بمستقبل البلاد كما تفعل بحاضرها، بل وتزيف ما مضى….
زمان وأنا صغير، لما كان ييجي آخر مشهد من فيلم “سواق الأتوبيس”مشهد خناقة نور الشريف -سواق الأتوبيس اللي كان في حالة نفسية شديدة السوء نتيجة موت والده حزنا وكمدا- وأحد النشالين، اللي طبعا قام بنشل إحدى ركاب الأتوبيس،الحادث اللي على إثره اضطر السواق انه يوقف الأتوبيس، وينزل وراه، و بعد مطاردة فوق أحد كباري القاهرة، بيتمكن نور الشريف منه، ويوسعه ضربا،أتذكر جيدا جملة كان دايما أخويا الكبير يرددها مع كل مرة يتذاع فيها الفيلم، ومع حضور هذا المشهد: “أهو بسبب الجملة دي، الفيلم ما اخدش جوايز.” يا ولاد الكلب، دي الجملة اللي – طبقا لرواية اخي- حرمت هذا الفيلم بالغ الروعة من إنه يحصد جوائز كان في نظري جدير بحصادها، كلمة واحدة كانت بتثير اشمئزازنا، فكنا بندور لها على مخرج – حقيقي أو في اللاشعور…
وبعد هذا الفلاش باك، مضطر أعود بحضراتكم ومع بالغ الأسف لواقع أقل ما يمكن أن يوصف به، هو انه واقع يغتصب فينا الطهر والبراءة جهارا نهارا، ليس هذا وحسب، بل ويحصل القائمين بشكل مباشر أو غير مباشر على إدارة هذا الواقع على كافة الامتيازات من تقدير معنوي، ومجتمعي، يصل إلى منحهم مكانة النجوم ناهيك عن التقدير المادي الذي لا يحصل عليه عدد من العلماء يسكنون هذا الوطن الذي عرف سابقا بالعربي.بل إنه يكرم اي تكريم، المسئول الأول والمباشر -نعم المباشر- عن نشر الرذيلة، وترسيخ قانون الغابة، وهدم مؤسسة الأخلاق، بل والعبث بثوابت كنا نظن انها لا تهتز، إلا انها سقطت، فسقط بسقوطها الإنسان. قد صاروا هم اصحاب اليد الطولى. من انجب الغانية، والبغي، ومن ظل يجسد فكرة البلطجي، حتى صار حيا يسكن الأحياء والازقة..
صار البلطجي حيا، يسكن الأحياء والأزقة، بل إنه يقتل الأحياء، وينال وقد غاصت -سنجته- في الأحشاء لقب الفتوة، الشهم، البطل، لا عليك، فقد صارت الألقاب تسكن صفائح القمامة، يا من تدافع غير واع، إنه السم في العسل، هم يعبثون بعقول كنا نأمل أن تبني، فصارت أطلالا.قد أدرك الاستعمار – ولا أعلم إن كان وصفا صحيحا يطابق من اقصدهم- أن الحروب التقلبدية أصبحت باهظة الثمن، ضعيفة التأثير، فابتكر شيئا آخر طويل الأمد حتمي التدمير، شيء يذبح هوبتنا بدم بارد، اختار أن يعبث حتى بمناطق اللاشعور، فصار يبني غير متعجل مفاهيم يعلم انه ستحتل عن قريب مركز الصدارة، هو سم أشد فتكا من علبة الدواء التي لم يشربها أحمد إبراهيم، الذي مات وترك أجيالا أضحت تتجرع سما كفيل بإفنائنا جميعا وقد صرنا مسوخا. ولا سلام علينا، ولا سلام عليكم