بقلم: هبة هيكل – عصمت أبو الروس
في بلدٍ علَّم العالم أول أبجديات الرحمة، تحوّلت الحاجة إلى عرض مباشر، والمأساة إلى مشهد درامي مفتوح على الهواء. شيخ من فوق منبر، أو مُقدّم برامج من قلب استوديو، يتلو قصة أم لا تملك ثمن دواء لابنها، أو أب غارق في الديون، أو مريض ينتظر نهاية لم تأتِ بعد. تُعرض الصور، تُذاع القصص، وتنهال الدعوات للتبرع.
لكن: هل هذا هو الحل؟ أم أن هناك خطأ أعمق لا يُقال؟
لو جمع كل بيت في مصر خمسة جنيهات فقط، لتمكّنّا من إنقاذ آلاف الحالات دون تصوير دمعة واحدة أو كشف وجه فقير. مبلغ بسيط قد لا يكفي لشراء قهوة، لكنه كفيل بتغيير حياة كاملة. ومع ذلك، نُصرّ على الطريق الأصعب والأقسى: عرض المأساة علنًا مقابل التعاطف.
نحن لا نُهاجم الخير، بل ندافع عن كرامة المحتاج.
الفقر في مصر ليس عارًا، لكن طريقة التعامل معه أصبحت مُهينة. الدولة تخلّت عن الدور الأساسي في حماية غير القادرين، والمجتمع المدني يعمل في فراغ تنظيمي، والإعلام حوّل الألم الإنساني إلى محتوى قابل للتداول والمشاركة.
الفقر مش مادة إعلامية
ما يحدث حاليًا ليس تضامنًا اجتماعيًا بقدر ما هو “تسويق للمعاناة”. يُروّج الفقر وكأنه حملة إعلانية؛ تُكتب العناوين الجاذبة، تُعرض الصور الصادمة، وتُرفع لافتة التبرع السريع، وينتهي كل شيء بانتهاء البث.
ولكن: ماذا بعد؟
هل تم حل المشكلة من جذورها؟
هل وُضعت سياسات للوقاية من تكرارها؟
هل يعرف أحد مصير التبرعات بعد انتهاء الحملة؟
المطلوب: إدارة.. لا إثارة
العدالة الاجتماعية لا تُبنى بالمساعدات العشوائية، بل تُصنع بسياسات مستدامة:
قاعدة بيانات واضحة تُوثّق المحتاجين بكرامة.
هيئة مستقلة تُدير وتُراقب التبرعات والإنفاق.
إعلام بديل يُسلّط الضوء على الحل لا على الوجع فقط.
ما نحتاجه ليس مزيدًا من الإعلانات، بل منظومة تكافل حقيقية تبدأ من الحي، وتُدار بشفافية، ويُسأل عنها أمام المجتمع، لا أن تُترك لحملات موسمية تنتهي بانتهاء التصوير.
لا أحد يريد أن يكون بوستر للشفقة
لا يوجد فقير اختار أن يُعرض على شاشة، ولا مريض رضي بأن تُذاع مأساته أمام الملايين. لكن حين تغيب الدولة، يُجبر الإنسان على عرض نفسه من أجل النجاة.
ولذلك، نوجه دعوة صريحة:
كفى تصويرًا للفقر.
كفى استغلالًا للوجع.
كفى إدارة للأزمة عبر “الميكروفون”.