أخبار عاجلة
Oplus_16908288

الجزء الخامس: الفكر الديني والصوفي في التراث العربي الإسلامي

الجزء الخامس: الفكر الديني والصوفي في التراث العربي الإسلامي

مع الدكتور السيد إبراهيم أحمد

تحاورُه: الكاتبة والإعلامية السورية روعة محسن الدندن

 

أدارت الحوار:

الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن مديرة مكتب سورية في الاتحاد الدولي للصحافة والإعلام الإلكتروني، مديرة مكتب أخبار تحيا مصر في سورية، مستشارة رئيس التحرير لجريدة أحداث الساعة. 

 

ضيف الحوار:

الدكتور السيد إبراهيم، رئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام، وعضو شعبة المبدعين العرب ـ جامعة الدول العربية، ورئيس قسم الأدب العربي ـ اتحاد الكتاب والمثقفين العرب – باريس.

 

  لننتقل في هذا الجزء الهام من حوارنا المعمق إلى أفق الفكر الديني والصوفي، حيث شكّل التصوف، بُعدًا روحيًا وإنسانيًا عميقًا، تميز بالتجربة الشخصية والبحث عن الحقائق الروحية، مقدمًا نموذجًا ثقافيًا وأخلاقيًا غنيًا ومتجدداً.

 معنا اليوم الدكتور السيد إبراهيم، الخبير المتميز في تاريخ الفكر الإسلامي، لنغوص في هذه العوالم الفكرية، ونكشف النقاب عن أبعادها المتعددة، ودورها في تشكيل الهوية الثقافية والدينية لشعوبنا.

دكتور إبراهيم، نرحب بك مجددًا، وننتظر مشاركتك القيّمة في هذا النقاش العلمي الرصين.

 

١ـ هل يُعد التصوف جزءًا أصيلًا من التراث الإسلامي أم ظاهرة دخيلة؟

 

    التصوف يُعد جزءًا من التراث الإسلامي، بل نشأ من صميم الإسلام ذاته، لأن جذوره في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهناك العديد من الآيات التي تشير إلى الزهد والتوكل على الله، وتحتوي السنة النبوية على العديد من الأحاديث الشريفة التي تشير إلى أهمية الزهد في الدنيا والتركيز على الآخرة. وتاريخيًا.. مر التصوف بعدة مراحل، أما الأولى فهي “مرحلة الزهد” وتستوعب القرنين الأولين، وتتصف بالإحساس الديني العميق، ذلك أن الزهد في الإسلام يتميز بالاعتدال، أي العلم بأمور الدين والقيام بأمور الدنيا مع التقليل من المأكل والملبس تَقشفًا، والإقبال على الطاعات والعبادات، بعد هذا ارتبط التصوف بالفلسفة في المرحلة الثانية، مع ظهور “ذو النون المصري” فيما يُعرف بالتصوف النظري أو ما يسميه نيكلسون “الثيوسوفي” وهو أول من أدخل العرفانية في التصوف الإسلامي، ثم عرف التصوف الإسلامي نظرية “الفناء” مع ظهور أبي اليزيد البسطامي التي كان من نواتجها القول بنظرية الاتحاد ـ أي اتحاد الناسوت “الطبيعة الإنسانية” باللاهوت “الطبيعة الإلهية”ـ ومع ظهور الحلاج ظهرت نظرية الحلول ـ أي حلول الله في مخلوقاته.

  ويمكن القول أن العصر الذهبي للتصوف كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين؛ فقد شهدا تأسيس العديد من مذاهب التصوف، وبالتالي كثرت الشيوخ وأتباعهم من المريدين الذين يتبعونهم باعتبار الشيخ هو المرشد الذي سيقود المُريد لسلوك الطريق إلى الله تعالى، وقد حاول الإمام الغزالي إعادة التوازن إلى التصوف في القرن الخامس الهجري ليكون مقبولا لدى السلطة الحاكمة والفقهاء المتمسكون بالشريعة وأحكامها بشدة، والذين يروْن في التصوف خروجًا عن الإسلام، فأرسى الغزالي “التصوف السني” أي التصوف القائم على كتاب الله تعالى وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

    في المرحلة الثالثة ظهر التصوف الفلسفي في القرن السادس الهجري وما بعده مع ظهور السهروردي صاحب الحكة الإشراقية، وابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود، وابن سبعين صاحب الوحدة المطلقة، وابن الفارض في وحدته الشهودية، ثم أخذ التصوف في التدهور مع مطالع القرن السابع الهجري، بل إن شئنا لفظًا أدق “انحرف” حين أصبح مجرد ترديد لتعاليم السلف وأقوالهم، وليس فيها جديد مبتكر. بل مال شيوخ الطريق بعد ذلك إلى السيطرة على عقول السذج من العامة، والتزلف إلى أصحاب النفوذ، وقل الإخلاص في الزهد والعبادة، ومجاهدة النفس ورياضة الروح، وكان تدهور وانحلال وانحراف عن السنة القويمة إلا عند قلة من أهل النفوس الطاهرة البريئة. كما يقول أستاذنا دكتور توفيق الطويل. 

 

٢ـ هل أفهم من كلام حضرتك أنه جزء من التراث العربي الإسلامي إلى ما قبل ظهور التصوف في القرون: الثالث والرابع والسادس والسابع من الهجرة حتى يمكن القول أنها ظاهرة دخيلة؟

 

    سؤال حضرتِك سيردنا إلى المنطقة الشائكة الخلافية حتى وقتنا هذا.. وهي الحديث عن مصادر التصوف الذي حار فيه الباحثين القدماء والمحدثين، ودخل فيه طائفة من المستشرقين بآرائهم خاصة تلك التي تحاول أن ترد التصوف إلى مصادر أجنبية دخيلة على الإسلام، ومنهم من يجعله فارسي المصدر أو منقول عن المسيحية، بل يزيدون فيدخلون التراث اليوناني كمصدر للتصوف الإسلامي، ولكل مستشرق حججه وأدلته؛ فالذين قالوا بهنديته كانت حجتهم وجود بين مظاهر التصوف الإسلامي النظري والعملي وبين بعض العقائد والأدعية والرياضة والتفكير في كتب الهنود وفقرائهم وزهادهم.

   والذين قالوا من المستشرقين بفارسية التصوف الإسلامي مستندهم في هذا أن المتصوفة الأوائل من المسلمين يعودون لأصول فارسية. والذين قالوا بيونانية التصوف الإسلامي كانت حجتهم غلبة الثقافة اليونانية على الشرق بفعل الترجمة إلى العربية، وتأثر بعض فلاسفة المتصوفة بالمصطلحات الواردة عند أفلوطين والإفلاطونية الحديثة وغيرها، وهناك من يردون التصوف إلى المصدر المسيحي لِماَ كان بين العرب والنصارى من علاقات، وتَشابُه أحوال الرهبان بأحوال الصوفية في التمسك بالتقشف والزهد، ومع التسليم بأن الزهد “مظهر إنساني” إلا أن الإسلام في عقيدته يدعو للتعامل والتفاعل مع الحياة وليس في الانعزال عنها وعن الناس بالرهبنة؛ فالإسلام دين الجماعة وهو ما يبدو في الاعتكاف الرمضاني من وجهة نظري. كما أن القرآن الكريم يحث المؤمنين في آياته على الزهد في الدنيا ومظاهرها، والإقبال على الاقتصاد في مباهجها، ومن يًرِد التوسع فليرجع لكتابي: “منهاج الزهد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم”.

  ولقد رد المؤرخ البريطاني “ريتشارد فين” في كتابه “الزهد في العالم الإغريقي ـ الروماني” الزهد المسيحي المبكر إلى اليهودية، وبعض الأفكار الزاهدة في المسيحية إلى جذورها في الفكر الأخلاقي اليوناني. ولقد انتقلت العبارات المسيحية مثل اللاهوت والناسوت في عصر متأخر إلى التصوف الإسلامي، وجملة القول: أن التصوف في الإسلام نابع من مصدره الأول القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم علم الكلام الذي كان له أثره في تطور الصوفية وعقائدها المختلفة، ومن خلالها امتزجت نظريات علماء الكلام أو المتكلمين بنظريات الصوفية.

    ولمن أراد التثبت من كون التصوف ليس جزءًا من الإسلام فحسب، فليعلم أن هناك “تصوف 

عربي” عاشه العرب قبل أن يعرفوا الإسلام، وهو ما ساهم في إقبال بعضهم إلى الدخول في دين الله الجديد، وأحيل القارئ لكتاب “التصوف العربي” للدكتور محمد ياسر شرف، وهو مفكر وأكاديمي سوري.

 

٣ـ إذًا كان الاتجاه الاستشراقي ـ في أغلبه ـ يشير إلى المؤثرات الأجنبية وتعدد مصادره غير الإسلامية؟ 

 

  بالفعل لكن يجب القول أن تلك الاتجاهات بدأت تتراجع عن موقفها وانحسرت موجتها عن هذا القول من بعد عشرينيات القرن الماضي، ومن كان هذا رأيه منهم من قبل عدل عنه ومنهم المستشرق نيكلسون الذي قال: (لو أنّ المعجزة وقعت وانقطع الإسلام تماماً عن كلّ سبله بالأديان والفلسفات الأجنبية، لكان من المحتّم أن يقوم فيه لون من التصوّف ذاك لأن فيه بذوره).

  ويتابعه في رأيه هذا المستشرق ماسنيون الذي أكد في مواقف عديدة تشبثه برأيه في إسلامية نشأة التصوف الإسلامي وأنه وليد بيئته، فيقول: (إنّ القرآن ينطوي على البذور الحقيقية للتصوف، وإنّ تلك البذور كافية لتنميته في غير حاجة إلى أيّ غذاء أجنبي … كلّ بيئة دينية يتوفّر لتقوى أبنائها الإخلاص والتفكير، تصلح لأن تظهر فيها روح التصوّف. فليس التصوّف إذن من خصائص عنصر أو لغة أو أمّة. بل هو مظهر روحي لايحدّه مثل هذه الحدود المادية، فمن القرآن ـ يردد المسلم تلاوته ويتأول في آياته بفرائضه ـ انبثق التصوّف الإسلامي ونما وتطور).

        وغالبا ما نتكلم عن التصوف الإسلامي وتأثره بالمصادر المختلفة، ونغفل تأثيره في الغرب، ولا تكاد الدراسات الصوفية العربية تتناوله إلا على المستوى الأكاديمي، بينما يلحون على تأثره وهو ضرب يسلكه أعداء الصوفية وخصومها وأكثرهم بل على رأسهم أهل السلف.

 

٤ـ هل كان للتصوف الإسلامي تأثيره في الغرب، بالفعل أمر جديد بالنسبة لي وغالبا للقراء أو بعضهم؟ 

 

  على الرغم من كثرة الدراسات الغربية التي تتناول التصوف الإسلامي إلا أن هذه الخطوة ينظر إليها خصوم التصوف من المسلمين وخاصة أهل السلف بكل ريبةٍ وشك، ويروْن أن الدعم الغربي والتوجه الأمريكي بنشر التصوف في المنطقة العربية له أسبابه، وأنا أتفق معهم في بعضها، ومنها: أن الصوفية هي المدخل الحقيقي لنشر التشيع في العالم الإسلامي؛ وهو السبيل إلى إحداث فتنة طائفية ومذهبية وصراع “سني ـ شيعي” يسهل معه التدخل وتقسيم البلاد العربية والإسلامية وتنفيذ مخططاتهم، كما يروْن أن لهم غرض خبيث بتنفير الغرب من الدخول في الإسلام للخرافات الموجودة عند الصوفية، وأن التركيز والاهتمام الصوفي فقط بالجانب الروحي فقط، سيهدم نظرية أن “الإسلام منهج حياة” وأنه مشروع حضاري متكامل مهمته بناء الإنسان ونشر العمران؛ وأن في انتشار التصوف انتشار للبدع التي ستؤدي حتمًا لهدم السنة، والمؤسف أن بعض الطرق الصوفية يساهمون في ذلك بتساهلهم في الارتكاز على الأخذ بالحديث الضعيف بل على الموضوعات مادامت تنصر رأيهم.  

 

٥ـ وهل هذا حادث في الواقع؟

 

  قد يكون هذا توجه الأنظمة الحاكمة في دول الغرب، إلا أننا نشهد ـ وخاصة في الدول المغاربية ـ ارتباط العديد من الأمريكيين والأوربيين بالطرق الصوفية التي أصبحت بوابة كبيرة لاعتناق الكثير منهم للإسلام؛ لأنهم يجدون في تلك الطرق التسامح والروحانيات التي تلبي احتياجاتهم واهتماماتهم الفردية. إن الحديث عن بدايات المعرفة الأوربية الأولى بالتصوف الإسلامي، ولـو بشكل مبهم، ترجع إلى ما قبل اكتشاف أميركا؛ فحسب ما توصلت إليه الباحثة الألمانية “آن ماري شيميل” من أن الاتصال الأوربي الأول مع الأفكار الصوفية يرجع إلى العصور الوسطى؛ فأعمال الزاهد والباحث الكاطالوني “رامون لول” الذي توفي سنة 1316م، تُظْهِر ملامح قوية لتأثره بالأدب الصوفي، حيث يبدو في عمله “أسماء الإله المئة” الذي استلهَمه من أعمال محيي الدين بن عربي. وكان رامون لول قد تعلَّم العربية والإسلام. 

   لقد اتجه التصوف الإسلامي نحو الغرب عن طريق الرحالة الذين زاروا الشرق الأوسط والأدنى في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين وحملوا معهم معلومات وافرة عن طقوس الدراويش، ورقصة المولوية، ولا نغفل دور الترجمة التي كانت عاملا هاما في تعرف أكثر مثقفي الغرب على التصوف الإسلامي بعد أن قرأوا أشعار ابن الفارض المصري وشعر سعدي الشيرازي الفارسي، وأشعار شمس الدين حافظ وأشعار جلال الدين الرومي المترجمة.

 ولا يتوقف الأمر في الغرب على الرجال دون النساء بل هناك إقبال كبير من الغربيات رصدتْ بعضه المؤلفة والمترجمة والطبيبة النفسية الإيرانية الأمريكية “لاله مهري بختيار” التي تربَّت تربيةً كاثوليكية في الولايات المتحدة، لكنَّها انتقلت فيما بعد إلى إيران، حيث درست على يد الفيلسوف الإيراني سيد حسين نصر، وانتهى بها المطاف إلى اعتناق دين والدها، ونشرت كتابها: “النساء الصوفيات في أمريكا: ملائكة في طور التكوين”، كما ترجمتْ القرآن الكريم إلى الإنكليزية.

  كما يجب ألا نغفل دور الصوفيات المتعبدات الزاهدات الصحابيات الصديقات في تراثنا العربي الإسلامي؛ إذ لم يكن علم التصوف خاصاً بالرجال، فقد أضافت النساء إلى علم التصوف قدراً وافراً من المعرفة من أقوال أعلامه وتجلَّياتهم، وقد نقلتَها كثيرات من العابدات الصوفيات من كلامهن أنفسهن أو من كلام سمِعْنه أو رَوَيْنه عن رجال الصوفية ومشايخهم مما لا نجده في تراجم هؤلاء الرجال من كتب التراجم والطبقات، كما تناولت سيرتهن كتب الزهد والتصوف والعبادة. ومن الممكن أن نفرد للتصوف الإسلامي وموقع المرأة منه وفيه في الشرق والغرب حوارًا طويلًا إن شاء الله.  

  كان أستاذي المقكر الكبير أنور الجندي يرى أن نظام الفروسية في ذاتها الذي اقتبسه الأوربيين نظام صوفي، ونظام الصفوة القائم على الكرم والسخاء والشجاعة والمروءة نظام صوفي، وهي تهدف في جملتها إلى أن يجرد الفرد نفسه للأمة، فيعيش للجماعة ويعيش للفكرة، ويعيش للمثل الأعلى.

 

٦ـ من خلال دراساتك دكتور إبراهيم كانت لك دراسة هامة، عنوانها “التصوف وعلاقته بالتشيع.. الافتراق والالتقاء” بينت فيها خطأ القول بتطابق التشيع مع التصوف، وصوبت هذه العلاقة.. فهل يمكن إيجازها؟

 

   لعل هذا ما سيجيبك عن الفرق بين التصوف السني والتصوف الفلسفي، والإيجاز صعب، لكنني سأحاول: ليس بالجديد ولا الغريب أن نثبت ما للتصوف من علائق ووشائج قديمة بالتشيع؛ إذ ليس مِن قبيل المصادفات أن تَنشأ الحركةُ الصوفية المتطوِّرة في البصرة، وهي بيئةٌ شِبه فارسية، والواقع أنَّ الدارسَ لا بدَّ أن يتوقَّف عند هذا العدد الهائِل مِن المتصوفة الذين تعود أصولهم إلى إيران، والذين ترِد ترجماتهم في كتُب التصوُّفِ العربية، وأنْ يستوقفَه أيضًا أنَّ هؤلاء جميعًا كانوا مِن أصحاب جوامع الكَلِم، وأنَّ بداية التعمُّق الصوفي والإغراق في الرَّمز، أو ما عُرِف باسمِ الشطح على يدِ أبي يَزيد البسطامي، وهو مِن أصلٍ فارسي [التصوُّف عند الفرس، إبراهيم الدسوقي شتا].

   غير أنه يجب أن نفرق بين التصوف في منابعه الأولى والتصوف الذي انحرف فاتصل بالتشيع وغيره؛ فهذا العلمُ ــ علم التصوف ــ من العلومِ الشرعيَّة الحادثة في المِلَّة، وأصلُه أنَّ طريقَ هؤلاء القوم لَم تَزَل عند سلفِ الأمَّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، طريقة الحقِّ والهداية، وأصلُها العكوف على العبادةِ والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زُخرف الدنيا وزينتها، والزُّهد فيما يُقبلُ عليه الجمهور من لذَّةٍ ومال وجاهٍ، والانفراد عن الخَلْقِ في الخَلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، فلمَّا فشَا الإقبالُ على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجَنَح الناسُ إلى مخالطة الدنيا، اخْتُصَّ المُقبلون على العبادة باسم الصوفيَّة والمتصوِّفة كما قال ابن خلدون في المقدمة.

 إن الخطأ الجلي في تسويق فكر الشيعة والصوفية على أنهما فكرين متطابقين تمام الانطباق، وفي هذا افتئات على المنهج العلمي، ينافي الحاصل في الواقع الذي يؤكد أن بينهما مناطق التقاء، ومناطق افتراق، وسأذكر بعض ما يختلفون فيه، وعلى الأقل الغلاة من الجانبين: أن الصوفية يؤمنون بكتاب الله تعالى بكامله، أما الغلاة من الشيعة فيزعمون تحريفه، ولقد أثبتُ في كتابي: “سياحة الوجدان في رحاب القرآن” أن معظم القوم ينكرون ذلك التحريف وهذا من باب الأمانة العلمية، ولا ينكر أحد مدى محبة الصوفية للرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته، فيما يبحر الشيعة بقارب الإيذاء في بحار الشتم واللعن لآله الكرام رضي الله عنهم، ويوقر الصوفية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويترضوَن عليهم، ويقولون بأن أفضل الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًا رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين، أما الشيعة فيبغضون الصحابة جميعًا بل يُكفِّرونهم ما عدا أربعة، وأخيرًا يؤمن الصوفية بالسنة المطهرة وكتبها، بينما الشيعة ينكرونها.

       قد يظن البعض أن قوة العلاقة بين التشيع والتصوف لا تسمح بوجود خروقات ونزاع عقدي بينهما، وهذا ظنٌ خاطئ؛ فقد تسرب الشيعة إلى الطرق الصوفية تحت راية حب آل البيت ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان التصوف هو البوابة الملكية لعبورهم ـ أي الشيعة ـ إلى ضفة أهل السنة والجماعة والتشغيب على معتقداتهم، وهو ما فعله التصوف في المقابل حين اخترق التشيع في عقر داره عن طريق “العرفان” الذي يُعتبر أحد المراتب العليا من السلوك ـ بزعم الصوفية ـ وليس كل صوفي بعارف.

    يرفض بعض علماء الشيعة “العرفانية” باعتبارها “فلسفة” متشكلة من كلمتين: “فل” يعني: “محب”، و”سفة” يعني: “عرفان”، لذا فالفلسفة تعنی “محب العرفان”، والعرفان یعنی: الشيء الذي بواسطته تعرف الله وتعرف کُنه وذات رب العالمین. وهم يُحذِّرون من العُرفاء وانحرافاتهم، كما أن الصوفية في وجه من الوجوه أكبر أعداء الشيعة، بل يسخط الشيعة على المتصوفة لقولهم بالولاية وبالقطب الغوث مما يعطل علم الإمامة عندهم، فضلًا عن أن تَجمُع المريدين حول مشايخ الصوفية حَرَمَ الشيعة من رصيد بشري هائل كان من الممكن استمالته إلى التشيع وتجميعه حول الإمام الشيعي، ذلك أن الإمام الشيعي فقط وليس الصوفي هو إمام الوقت في كل وقت، وفي أي مكان من العالم الإسلامي، خاصةً بعد نجاح الثورة الإيرانية على يد إمامهم الخميني في إيران، ومحاولة تصديرها إلى المناطق السُنية من العالم الإسلامي واستثمار نجاحها سياسيًا في نشر أفكار المذهب الشيعي.

 

٧ـ كيف عبّر المتصوفة عن معاني الإلهية والحب الإلهي عبر الشعر والفكر؟

 

    التصوف ظاهرة وتجربة إنسانية يحاول الصوفي الذي يمارسها أن يعبر عنها، وهم يرون أنهم أهل الله الذين اختصهم ومنحهم أسرار العلم الباطن المودع في كتاب الله وسنة رسوله، والطريقة الصوفية تنقسم إلى مقامات وأحوال، ولجأوا إلى استخدام الرموز والاستعارات لوصف الله والحب الإلهي، مثل استخدام رمز الخمر لوصف النشوة الروحية في التعبير عن حبهم لله تعالى، والرمز الصوفي عندهم متوقد لا يعرف الثبوت أو المكوث أو الجماد بل هو يتنقل من ذوق إلى ذوق، يتنقل بين الأحوال، وكانت لهم مفرداتهم الشعرية المحملة بالمعاني الذاتية والوجدانية والروحية الخاصة بهم ومن نتاجات إبداعاتهم، فلم يعرفوا النقل أو التقليد أو الاقتباس، ومازال شعر جلال الدين الرومي، وشعر ابن الفارض وغيرهما مُلهِمًا لكثير من الشعراء شرقًا وغربً ويرددونه عبر المدائح المغناة في مصر والوطن العربي، وكان ابن الفارض شاعرًا صوفيًا مصريًا شهيرًا، وقد كتب العديد من القصائد التي تعبر عن الحب الإلهي والنشوة الروحية.

 يرى أستاذنا الدكتور أبو العلا عفيفي أن المحبة الإلهية ظهرت في جميع عصور التصوف وتكلم فيها كل صوفي صفت له الحال، وكان له نصيب من حياة الكشف والإشراق، ولكن من المستحيل علينا أن نناقش هنا أقوالهم جميعًا أو أقوال أكثرهم فهي مما لا يدخل تحت حصر نثرًا ونظمًا، ومن الصوفية ممن كانت لهم نظريات خاصة في المحبة الإلهية لها أثرها في الأوساط الصوفية من بعدهم ومنهم أربعة من رجال القرن الثالث، وهو العصر الذهبي للتصوف الإسلامي البحت، هم: الحارث المحاسبي، وأبو القاسم الجنيد، وذو النون المصري، وأبو يزيد البسطامي، وواحد من متصوفة القرن السابع هو سلطان العاشقين الصوفي الشاعر الكبير عمر بن الفارض. 

 

٨ـ ما الإسهام الذي قدمه التصوف في تهذيب الروح وتقديم نموذج إنساني عالمي؟

 

  يستهدف التصوف إصلاح الباطن الإنساني، ويقوي المعاني الروحية التي تسهم في تهذيب الروح وتطهيرها من الشوائب والعيوب التي درجت عليها البشرية، ولا يقوم منهج التصوف على التنظير بل إن أهم ما فيه هو التطبيق أو التصوف العملي الذي يتجلى من خلال الممارسات الروحية التي ترتكز على الذكر والفكر والتأمل، وبذلك يتحقق التوازن الداخلي للإنسان، من خلال تَساوي كفتيّ الروح والمادة للحياة، ويقوم التصالح بين ظاهر الإنسان وباطنه، فينبثق منه ـ أي الإنسان ـ القيم الإنسانية الممثلة في الحب والرحمة والتسامح والعدل. وهو ما يُعرف عند الصوفية بـ “الإنسان الكامل” الذي تربى على الأخلاق التي لا تشكل عندهم مظهرا خارجيا بقدر ما هي مسائل قلبية تتعلق بالروح. 

  ولهذا يبدأ الصوفية منهجهم بالطريق الذي يتحلى بالروحية الوجدانية، والداخلية الباطنية، والطريق هو مسار الروح الرأسي من أدنى إلى أعلى كتوجه وقصد، ويتجلى هذا المسير في مؤلفات الأعلام منهم، وأولهم الإمام الغزالي الذي جعل عنوان كتابه نهجًا لكل سائر سالك أسماه “منهاج العابدين” وفيه تنبيه للعابد أن يتخطي سبع عقبات: العلم، والتوبة، والعوائق، والعوارض، والبواعث، والقوادح، والحمد والشكر. يتلوه كتاب “بداية النهاية” للغزالي أيضا وهو كتاب يلتزم آداب الطريق، وينقسم إلى ثلاثة أقسام الأول في الطاعات، والثاني في اجتناب المعاصي، والثالث في آداب الصحبة وغيرها من الكتب التي ترتكز على الجوانية الباطنية استعدادًا لانتقال الصوفي من التصوف النظري إلى التصوف العملي مع رسالة من رسائل ابن عربي “تحفة السفرة إلى حضرة البررة” فيسلك السالك في الطريقة ويتلقى الآداب من الشيخ، ملتزما بالمجاهَدة وهي الجانب العملي في حياة الصوفي التي تحتاج منه عزمًا وتصميمًا؛ لأنها موجههٌ ضد النفس ورغباتها والعالم ومباهجه، وهو ما يجعل الصوفي ينشد الكمال لأنه يرتكز على نظام أخلاقي صوفي محوره التضحية بالذات، وإيثار كل ما لله على كل ما للنفس، وهو ما يجعله مختلفًا عن غيره من النظم الأخلاقية الأخرى؛ لأنه قائم على معاملة الله وحده.

 

٩_ هل هناك علاقة بين التصوف والفلسفة الإسلامية؟

 

  يغنيني عن الإجابة رأى الإمام الغزالي في أن العلم وحده لا يجعل من العالِم صوفيًّا، وأن جميع ما حصله من العلوم ـ بما في ذلك علم التصوف نفسه ـ لا يُغني فتيلًا في تحصيل حالات الصوفية والوصول إلى معارفهم، وأنه ـ لكي يتذوَّق مذاق القوم ـ لا بد أن يسلك طريقهم ويجاهد مجاهداتهم، ويقول موجزًا خلاصة تجربته عن الصوفية: (فعلمتُ يقينًا أنهم ـ أي الصوفية ـ أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن ما يُمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصَّلت ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك). وهو ما يعني أن التصوف عند الغزالي يمثل تجربة روحية ذاتية، وأن هناك اختلاف بين التصوف عن العلم وعن الفلسفة؛ فهو ليس وليدًا لعمل عقل بل هو وليد العمل والمجاهدة النفسية أو السلوك.    

  هناك فرق جوهري وأساسي بين طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة من حيث هما طريقان لمعرفة الوجود المطلق أو الوجود الحق. هذا عالم وذلك عالم آخر. التصوف تجربة تتجه فيها “الإرادة” الإنسانية نحو موضوعها الذي تتعشَّقه وتفنى فيه، فتعرفه النفس عن طريق الاتحاد به معرفةً ذوقيةً. فالصوفي يعرف “المطلق” اللامتناهي بقدر ما يتجلى له ذلك المطلق في قلبه، ومعرفته له وشهوده إياه واتحاده به شيء واحد، أو هي تعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة. أما الفلسفة فعمل من أعمال العقل المقيَّد بمقولاته، العاجز عن أن يتحرَّر من الحبالات التي نصبها حول نفسه؛ ليتخبط فيها ولا يرى لنفسه خلاصًا منها. يحاول الفيلسوف إدراك اللامتناهي بأدوات لا تعرف إلا المقيد المتناهي، ويطبق مقولات هذا العالم على عالم ليس من طبيعته الخضوع لهذه المقولات. كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي. 

 

١٠ـ هل للتصوف ضرورة وأهمية في التراث العربي الإسلامي؟

 

نعم، للتصوف ضرورته وأهميته في التراث العربي الإسلامي، حيث ساهم في تعميق الفهم الروحي للإسلام وتأكيد أهمية الجوانب الداخلية للعبادة؛ فالتصوف يهتم بالجانب القلبي مثلما يهتم بالعبادات البدنية والمالية، وعن طريقه العملي يصل المسلم إلى أعلى درجات الكمال الإيماني والخُلُقي، كما أنه منهج عملي كامل، يعمل على تكوين شخصية مسلمة مثالية متكاملة، من خلال الإيمان السليم، والعبادة الخالصة، والمعاملة الصحيحة الحسنة، والتزام الأخلاق الفاضلة.

إن التصوف روح الإسلام وقلبُهُ النابض، حيث يساهم في تأكيد أهمية الذكر والتأمل والفكر، وتعزيز القيم الإنسانية مثل الحب والرحمة والتسامح، وترك أثره على الأدب العربي الإسلامي، حيث ظهرت العديد من القصائد والقصص التي تعبر عن الحب الإلهي والروحانية، مثلما أثر على الفن الإسلامي، لذا ظهرت العديد من الأعمال الفنية التي تعبر عن الروحانية والجمال الإلهي.

 

١١ـ هل كان للتصوف دور في الجهاد الإسلامي ؟ أم كان معوقا له وداعيا لرفض القتال؟

 

  يشيع أغلب أهل السلف أن المتصوفة يسكنون الزوايا والتكايا، ويعتزلون الناس، ويلتزمون بقراءة الأوراد وزيارة قبور وأضرحة أوليائهم ومشايخهم لذا ينعتونهم بـ “القبوريون” ويتناسون أن التصوف يشجع على الجهاد والمقاومة ضد الغزاة والمحتلين؛ فقد كان الصوفية يرون في الجهاد وسيلة لتنقية النفس وتحقيق الوحدة مع الله، كما يؤكد على الالتزام بالأخلاق الإسلامية في الحرب، مثل الشجاعة والصدق والإخلاص، وهي مبادئ أساسية للجهاد الإسلامي، وكانوا يرون في الشهادة وسيلة للوصول إلى الله والفوز بالجنة.

 ومن يعود للتاريخ سيقرأ أن

شاهد أيضاً

إستمرار أعمال رفع كفاءة منظومة النظافة العامة

إستمرار أعمال رفع كفاءة منظومة النظافة العامة تشهد جهود مضاعفة بجميع شوارع حى الضواحى كتبت …