“التراث العربي الإسلامي: جدلية النشوء والتأثير في بناء الحضارة”
الجزء الثالث من حوار الفكر والهوية
مع الدكتور السيد إبراهيم أحمد
تحاورُه: الكاتبة والإعلامية السورية روعة محسن الدندن
أدارت الحوار:
الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن مديرة مكتب سورية في الاتحاد الدولي للصحافة والإعلام الإلكتروني، مديرة مكتب أخبار تحيا مصر في سورية، مستشارة رئيس التحرير لجريدة أحداث الساعة.
ضيف الحوار:
الدكتور السيد إبراهيم، رئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام، وعضو شعبة المبدعين العرب ـ جامعة الدول العربية، ورئيس قسم الأدب العربي ـ اتحاد الكتاب والمثقفين العرب – باريس.
نواصل في هذا اللقاء العلمي المميز حوارنا الموسع حول التراث العربي الإسلامي، ونصل اليوم إلى محور بالغ الأهمية، يتناول اللغة والأدب والفنون، باعتبارها الأوعية الحيوية التي احتضنت روح الحضارة الإسلامية وعكست تنوعها الثقافي وعمقها الإنساني.
إن اللغة العربية ليست مجرد أداة تواصل، بل هي الحافظ الأساسي لتراثنا، وفيها تجلت أسمى معاني الثقافة والهوية، متجسدة في القرآن الكريم وشعر العرب وأدبهم، إلى جانب الفنون البصرية والسمعية التي زينت الحضارة الإسلامية وأثرت فيها بقوة.
معنا اليوم الدكتور السيد إبراهيم، الباحث والخبير في التراث الثقافي العربي الإسلامي، لنغوص في هذه المجالات العميقة، ونكشف النقاب عن أهمية اللغة، وأبعاد الأدب، وجماليات الفنون، وعلاقتها الوثيقة بموروثنا الحضاري.
دكتور إبراهيم، نرحب بك وننتظر بفارغ الصبر أن تشاركنا رؤاك القيمة حول هذه المحاور الحيوية:
١ـ ما الدور الذي لعبته اللغة العربية في حفظ وتدوين التراث الإسلامي؟
من المؤكد أن اللغة العربية لعبت دورًا هامًا في حفظ وتدوين تراث الحضارة الإسلامية، فهي قلب الحضارة الإسلامية ولغة القرآن الكريم والسنة المطهرة، بالإضافة إلى أنها لغة العلم والثقافة والآداب، ولهذا ساعدت في حفظ القرآن الكريم من خلال التدوين والرواية والتلاوة وكذلك الحديث الشريف، مثلما حفظت ونقل التراث الديني والعلمي والأدبي عبر القرون، ولذا أسهمت في تدوين العلوم بنوعيها، أي العلوم الشرعية متمثة في الفقه والتفسير والحديث، والعلوم العقلية مثل الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب، مما هيأها كلغة للعلم أن تنقل المعرفة من إطار المحلية إلى أجواء الثقافية العالمية.
كما حافظت العربية على تراثنا العربي الإسلامي من خلال حفظ النصوص الدينية بلسانها الأصلي فكانت خير وسيلة لنقل المعرفة والثقافة من جيل إلى جيل، وعملت على توثيق العلوم بلغتها، ونشرت العلوم والثقافة من خلال الأدب والفنون والشعر باعتباره ديوان العرب، كما ساعدت في ترجمة العلوم من اللغات الأخرى إليها، وكان من أكبر إنجازاتها ـ من وجهة نظري ـ أنها ساهمت في توحيد اللغة والثقافة في العالم الإسلامي، حيث صارت اللغة المشتركة ليس بين المسلمين فقط بل وغير المسلمين من خلال زحف وانتشار العربية مع الفتوحات الإسلامية وتطورها حتى أصبحت ـ عن جدارة ـ لسان حضارة ساهمت في ربط الشعوب المختلفة، وهو الأمر الذي أتاح فهم النصوص ونواتج العلوم بلغتها، كنموذج تعبيري وتوثيقي وتسجيلي للمعرفة. مازال فاعلا في الأجيال الحالية واللاحقة إن شاء الله.
٢ـ كيف ساهم القرآن الكريم في ترسيخ مكانة العربية الفصحى بوصفها لغة مقدسة وهوية جامعة؟
من محاسن هذا السؤال أنه يربط بين الدين واللغة والهوية، ومفهوم الهوية الدينية من وجهة نظر الإسلام، هي مدى تمسك الأمة بعقيدتها الثابتة من وحي الكتاب المنزل والسنة المطهرة، وأن على المجتمع المسلم أن يظهر مدى اعتزازه بإيمانه بهما معا، الأمر الذي يفرض على نفس المجتمع أن يكون متفردًا، متمايزًا ، متباينًا عن غيره من المجتمعات المحيطة به والبعيدة عنه على السواء. وتكمن سمات هذه الهوية في كونها: هوية متميزة تستوعب حياة المسلم كلها، وتجمع وتوحد وتربط جميع المنتمين إليها برباط وثيق، ولا غرابة في هذا؛ فالهوية الإسلامية من مقومات الحضارة الإسلامية.
تحتل اللغة العربية مكانة عظيمة في القرآن الكريم، فإن منزلتها في السنة النبوية، لا تقل عن ذلك بحال، لذا كان من خصائص القرآن أنه عالمي الدعوة والرسالة، ولهذا كانت لغته هي اللغة العربية: وعاء الإسلام، ولغة الفصاحة والبلاغة والبيان، ولغة التوحيد، واللغة التي تمتد في الزمان قروناً، أطول اللغات الحية عمراً، ولسان معجز التنزيل، ولغة البيان النبوي، ووعاء الفكر والمعرفة والحضارة العربية الإسلامية، ورمز الهوية وعنوان تحقيق الذات العربية، وجسر التواصل بين شعوب العرب.
أصبحت العربية الفصحى لغة مشتركة بين المسلمين من مختلف الأعراق والثقافات، ولهذا ساهمت في توحيد الثقافة الإسلامية باعتبارها لغة الدين والثقافة والعلم والآداب والفنون، حتى أصبحت العربية الفصحى جزءًا من الهوية الإسلامية وأحد المحددات الحيوية لها، والركيزة الأساسية للنظام التعليمي في المجتمعات العربية، ولهذا كان على كل المؤسسات المجتمعية أن تعي أهمية الدور الاستراتيجي للغة العربية التي حظيت بتلك المكانة المقدسة حتى أصبحت هوية جامعة لكل المسلمين على وجه الأرض، حتى المسلمين من غير العرب لا يمكن لأحدهم أن يستغني عنها ويقتصر على ما يفهم من دينه بلغته؛ فظهر منهم العلماء والفقهاء الذين أدركوا من مضامين الخطاب ما أدركه العرب أنفسهم، وذلك حين أدركوا أن لغتهم العربية هي الميثاق الذي يجمعهم، والعامل المشترك بينهم، والقاعدة الثقافية والفكرية، والحصن العقلي لأمة الإسلام، وأنها الوسيلة المثلى والأكيدة للتفوق والنهضة والريادة.
٣ـ هل تطورت اللغة العربية عبر العصور، أم بقيت جامدة؟ وكيف تعاملت مع التحديات الزمنية والتعدد الثقافي؟
لا يمكن لهذه اللغة أن تتجمد بل هي في تطور مستمر عبر العصور، وهي التي كان لها وجود بما يقارب الثلاثة قرون قبل الإسلام، وقد تم العثور على أقدم كتابة باللغة العربية وهي تعود إلى سنة 328 من التقويم الميلادي، وقد كانت لهجات متعددة متباعدة ثم تقاربت مع نزول القرآن الكريم، والذي هيأ للعرب أن يصقلوا نطقهم وكتابتهم لتشهد العربية والعرب ـ لأول مرة في تاريخهم ـ تأسيس معايير القراءة والتشكيل، لارتباط تلك العربية الفصيحة بالقرآن الكريم إعلانًا عن الاعتزاز بالهوية الدينية، وقد أصبح كتاب الله تعالى هو المرجع الداثم الثابت لقواعد تلك اللغة الراسخة في القلوب والألسنة والعقول.
لقد واكب التطور اللغوي: تطور قواعد النحو العربي عبر العصور، حيث تم إضافة قواعد جديدة وتوضيح القواعد القديمة، وتطور القواعد الصرفية للغة العربية، حيث تم دراسة بنية الكلمات وتغيراتها، كما تطورت معاني الكلمات العربية عبر العصور، حيث تم إضافة معاني جديدة وتوضيح المعاني القديمة، وذلك بعد ظهرت في العصر الإسلامي علوم النحو والبلاغة وتطور المعاجم، وصارت العربية لغة علم وفلسفة وترجمة، وانتشرت مع الفتوحات فأصبحت لغة كتابة وتدريس في كل البلاد التي عرفت الإسلام.
ووجد تطور العربية الفصيحة في العصر الحديث مبتغاه في النهوض بها، وذلك حين تكيفت مع الطباعة، الصحافة، والعلوم الحديثة، وتطورت المعاجم وأدخلت كلمات من لغات أخرى، مع الحفاظ على أساسها وقواعدها.
تعاملت اللغة العربية مع التحديات الزمنية والتعدد الثقافي عبر مرونة لغوية وتاريخية، حيث استوعبت مفردات من لغات أخرى، وتطورت لتلبية احتياجات العصر مع الحفاظ على جوهرها العربي الأصيل. كما ساهمت في نقل المعارف والعلوم من حضارات مختلفة، وازدهرت عبر العصور بفضل جهود علمائها ومحاولاتهم المستمرة في فهمها واستخدامها على الرغم من إقبال كثير من أبنائها على تعلم اللغات الأجنبية، لكن هذا لا يعني انصرافهم أو هجرهم للغتهم الأم على الإطلاق.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد الناطقين باللغة العربية يتجاوز 400 مليون شخص، حيث تعتبر اللغة العربية من اللغات المهمة في العالم، ويضيق المقام لاستعراض النسب المئوية المقبلة على تعلم اللغة العربية التي أصبحت متاحة في المدارس والجامعات يمثل ضرورة ملحة لها آثار اجتماعية وثقافية وقد بدأ تعليمها في مرحلة مبكرة من التعليم الابتدائي الأولي.
ومع هذا مازال تعلم اللغة العربية وتعليمها، يواجه العديد من التحديات، وهي مازالت تقاوم وتستبسل على الرغم من تهميشها داخل المؤسسات الجامعية الغربية، وعدم اعتمادها في البحث العلمي، وتحجيم دورها في أوساط المعرفة وشبكات التواصل الدولي، وهو أمر لو توسعتُ في مناقشته وعرضه لاحتاج كتابا قائما بذاته، ومازالت المؤتمرات تعقد من أجل وضع آليات علمية ومعرفية تسعى لجمع الطاقات المبددة من الدول العربية للعمل معا من أجل القيام بدور فعال في وضع العربية على الخريطة.
٤. ما أثر ازدواجية اللغة (فصحى/عامية) في الحفاظ على التراث أو تآكله؟
على الرغم من انحيازي للعربية الفصيحة إلا إنني دافعت عن العامية، ذلك أن للازدواجية آثارًا متوازنة ومهمة على التراث؛ فكتبتُ مقالا بعنوان “فزاعة العامية” أُثبتُ من خلاله أنه ليس هناك خوف على الفصحى من العامية، مثلما ليس ثمة خوف على العامية من جور الفصحى، بل أفادت الفصحى العامية حين هذبتها ورفعتها قريبًا منها، ودخلت العامية على الفصحى فأنستها وحببتها إلى المتلقي الذي كان ينفر منها، وبهذا أصبحت عندنا لغة وسطى .. ثالثة.. يجتمع عليها الجميع .. ومن استطعم وتذوق اللغة في كل أحوالها .. وامتلك ناصية أكثر من جنس شاء له أن يعبر بأقواها.. والفكرة هيَّ التي تختار قالبها لا المبدع.
ذلك في الوقت الذي يرى فيه أهل اللغة أن من أخطر المشكلات التي تواجهها اللغة العربية في عصرنا الحاضر، هو طغيان اللهجات العامية على طابعها العام، مما أوجد ظاهرة لم تنتشر في أي عصر مضى كما انتشرت في عصرنا هذا؛ وهي ظاهرة الازدواج اللغوي، التي شغلت اهتمام الكثير من الباحثين في مختلف الميادين، كعلم اللغة، وعلم اللغة الاجتماعي، وتعليمية اللغات وغيرها…
والعامية هامة في حفظ التراث اللامادي، والفلكلور، والأغنية الشعبية، والأمثال، وهو ما يؤكد ضرورتها، وضرورة إحياء وتعلم اللغة التراثية التي تتوازى مع اللغة الأم، ومع هذا فلابد من حفظ التراث الديني والأدبي عبر الفصحى كمرجعية لغوية موحدة، وتسهيل نقل المعارف القديمة إلى أجيال جديدة، من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية العربية بوصفها لغة فصيحة مشتركة، مع قدرة اللهجات على التعبير اليومي والتنوع الحضاري، غير أنه أدى إلى ابتعاد الناس عن اللغة الفصحى، مما قد يؤدي إلى تآكل التراث اللغوي، وفقدان المعاني الدقيقة للكلمات والمصطلحات الفصيحة، وفي النهاية سيؤثر تآكل الفصحى إلى التأثير على الهوية الثقافية العربية التي تعتبر اللغة العربية جزءًا من الهوية.
٥. كيف يعكس الأدب العربي الإسلامي (شعرًا ونثرًا) ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في عصره؟
أدبنا الإسلامي يعكس هذه الملامح من خلال العلاقات الاجتماعية، والقيم الاجتماعية السائدة في عصرها، كما يعكس أدب الطبقات الاجتماعية المختلفة. أما من حيث الحياة السياسية فيعكس أحوال الحكم وأساليب السياسة وجدل الصراعات بين كافة الأطياف، ويبرز الأدب دور الخلفاء والقادة السياسيين، والصراعات السياسية التي تدور رحاها في أروقة الدولة، ونمط العلاقات بين الحاكم والمحكوم، ويبرز هذا الأدب الانتماء الديني والالتزام القيمي، ويركز على موقع الإسلام في الحياة اليومية من خلال جانب العبادات، وجانب التشريعات، والجانب الأخلاقي، ويعكس من خلال الحياة الدينية مدى ونوع التدين السائد في عصره، والقيم الدينية السائدة فيه.
وربما كان من الأفضل أن نتناول الأدب العربي الإسلامي وتأثيره في جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في العصر الحديث، وما يتناوله من قضايا اجتماعية مثل: التحولات الاجتماعية، وقضايا المرأة، والطبقية، والصراع بين القيم التقليدية والمعاصرة، وتناوله للقضايا الوطنية، والقومية، والسياسية، وكفاح الشعوب ضد الاستعمار، والتحديات القائمة ضد العرب والمسلمين، كما يطرح رؤيته حول القضايا دينية، والأخلاقية، والفكرية، ومدى تأثير الدين على الحياتين الاجتماعية والسياسية من خلال الأشكال الأدبية المتنوعة كالرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية، ودور الشعر وتطوره، ومدى تأثر الأدب العربي الحديث بالاستشراق، وأثر حركة الترجمة في نهضة هذا الأدب وتوظيفها لتقريب العلوم والفنون الغربية مع الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية، والتحول من نقش التراث إلى خلق صيغ جديدة تعكس الواقع السياسي والاجتماعي والتقني المعاصر، وتأسيس مدارس أدبية ونقدية توازن بين الاصالة والتجديد.
٦ـ ما أبرز المدارس الأدبية آلتي ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية.وكيف تأثرت بغيرها وأثرت فيها؟
لعل من أبرز هذه المدارس: المدرسة الأندلسية التي تَأثرَت بالتراث الإسلامي والفلسفات اليونانية والرومانية، وخلَفت آثاراً في الشعر والفلسفة والعلوم، وهي من أهم المدارس التي أثّرت في الأدب الأوروبي، كما تأثرت المدرسة العباسية في بغداد بالثقافات الفارسية واليونانية مما جعلها تقفز بخطوات واسعة في الشعر والفلسفة والتاريخ والعلوم تركت أثرها في تطور النحو والبلاغة والكتابات النقدية، غير أن المدرسة الكلاسيكية أو ما يُعرف بـ “الإحيائية” أو “البعث” قد مالت نحو الاتباع للأصول ومعالجة التراث، مما جعلها ترتبط بالأدب القديم ونصوصه حتى تحافظ على الهوية اللغوية العربية، مع تركيزها على إحياء التراث الشعري العربي القديم وتقديمه بأسلوب عصري، في نفس الوقت الذي تأثرت فيه مدرسة أبولو بالرومانسية الغربية، وحاولت الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بينما سعت مدرسة الديوان إلى التجديد ورفض التقليد، وتبنت الرومانسية، ولا يمكن أن نغفل مدرسة المهجر التي تأثرت بالرومانسية الغربية، وتميزت بنزعة إنسانية وروحية واسعة وكان لها دورها في التفاعل الحضاري الإسلامي ـ الغربي؛ فقد تأثرت بالغرب، وروجت للحداثة مع الحفاظ على الهوية العربية أيضا.
وقد تأثرت هذه المدارس ببعضها البعض من خلال تبادل الأفكار والأساليب الأدبية، وتم ترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية إلى لغات أخرى مما كان لها تأثيرها في الأدب العالمي، ولم تتنصل من تأثرها بالثقافة العربية والإسلامية، حيث تم تعزيز القيم والتصورات الثقافية في إنتاجها الأدبي.
٧ـ ما العلاقة بين التصوف والأدب، خاصة في الشعر العربي الإسلامي؟
العلاقة بين التصوف والأدب في الشعر العربي الإسلامي عميقة وعريقة، تظهر دلالاتها في استمداد الشعر العربي تلك الحرية في التعامل مع السماء تعبيرا روحيا ورمزيا لا يعرف الحدود، ولغرابة الفكر الصوفي بالقصد أو بالبداهة لجأ إلى وضع الاصطلاحات الصوفية التي لا يعرفها إلا أرباب هذا المسلك؛ فقد اعتمدوا لغة زاخرة بالرمزية والإشارات التي تغني عن فضفضة العبارات استتارًا عن الفقهاء وأصحاب الفكر الظاهري الذين يكفرونهم تارة أو يتهمونهم بالزندقة أو الخروج عن الملة أو البعد عن الفكر السوي المستقيم وينعتونهم بالباطنية، وهي المعاني الدقيقة التي تعبر عن الغيبيات، فانسكبت بلاغة الشعر الصوفي وتنوعت صوره في الشعر العربي، وانجذب إليه الشعراء لكل هذا فباتوا يستمدون من الفكر الصوفي الجوانب الروحية والوجدانية، وقد فتنتهم الرمزية السارية والغموض البليغ، وحلاوة تذوق مفردات الحب الإلهي التي تدور موضوعات الشعر الصوفي حولها، وألفاظهم المصبوغة بالشوق إلى الله تعالى، والحكمة والتأمل والزهد في الحياة الدنيا، ومنهم من غاص في فكرة الوحدة الوجودية.
لقد صار التصوف ركنا قائما ومكونا هامًا ورئيسًا من مكونات الفكر والأدب العربي المعاصر، وكان الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور ـ وهو الذي تعامل مع الشعر الصوفي عن قرب وأنتج مسرحيته الشهيرة “مأساة الحلاج” ـ يرى أن بين الشعر والتصوف علاقة بل بينهما تشابه أكثر حساسية في أن التجريتين ـ الشعرية والصوفية ـ تسعيان إلى محاولة الإمساك بالحقيقة، والوصول إلى جوهر الأشياء. كما أن بينهما صلات قربى؛ فيحيل كل منهما على العاطفة والغموض، غير أن الشاعر غير الصوفي قد يستلهم في بناء قصيدته بعض المصطلحات الصوفية على الرغم من كونه لم يمر بأية تجربة صوفية مطلقاً بل يسطو بعضهم على التراث الصوفي ويقنص منه بعض الألفاظ والجمل، وقد فقد الإحساس بالجمال الخفي والجلي في مبانيها وبجلال معانيها، باعتبار التصوف هو تجربـــــــة روحانيــــــة وذوقيـــــــة شديــدة الخصوصيّـــة ذات لغــــــة منفـــردة وملغـــــــزة وموحيــــــــــة تميــل إلــى الاستغلاق.
٨ ـ هل نعدّ الأدب الأندلسي نموذجًا خاصًا داخل التراث؟ ولماذا يتميز عن غيره من الآداب الإسلامية؟
من المؤكد أن الأدب الأندلسي يُعد نموذجاً خاصاً داخل التراث العربي الإسلامي، وذلك لتميز الأندلس بجغرافية المكان، وتاريخية الأحداث، وتفاعلية الحضارة الإسلامية في قلب أوروبا، وهو ما خلق أجواء من تلاقح الثقافات الناتج عن التنوع الثقافي الكبير والمتمثل في التفاعل العربي والعبري واللاتيني والمغربي واليوناني، والثقافة الرومانية والجرمانية واليهودية والمسيحية.
كما أن الأدب الأندلسي هو ابن بيئته الاجتماعية وثقافتها المحلية التي أثرت في أفراد المجتمع الأندلسي الذين تذوقوا البيان العربية وبلاغة الفصحى، وكانوا ينطقون بالحكمة، وكانوا أحرص الناس على التميز، ولا ينبغي أن ننسى عامل الطبيعة الأندلسية: مناخا، وجوا، وجبالا، وتربة، ونباتا، وأنهارا الذي ترك تأثيره في نفوس الأندلسيين، وما أنعم الله عليهم به من الاستقرار والرفاهية التي فرغتهم إلى إلى الإبداع الأدبي المتميز شعراً ونثراً. وكلها مقدمات كانت حتما ستؤدي إلى ظهور أسلوب أدبي فريد متميز ومختلف عن غيره من الآداب الإسلامية الشائعة وقتئذٍ.
لقد كان هناك تأثير وتأثر بين الأدب الأندلسي وأدب المشرق العربي، غير أن هذا سيجرنا ـ حتما عنا ـ إلى قضايا ما يزال يعاني منها الإبداع العربي بين المشرق والمغرب الإسلاميين، ومن الذي أثر في الآخر ومن كان المؤثر ومن الناقل، ومن المبدع ومن المتلقي؟ وندخل في دائرة التعالي والتجاهل التي غالبا ما تثار عند التقاء الأدبين ومن يمثلهما في الندوات والمؤتمرات، على الرغم من تضييق الفجوات المعرفية في اطلاع الجانبيين على ما تخرجه المطابع عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي هدمت كثير من الحواجز، ويصبح تناول التأثير والتأثر موضوعا كبيرا في إثبات نواحيهما شعرا ونثرا، وكيف أضاف الأدب الأندلسي في تميزه بالموشح والأزجال فنًا جديدًا للأدب العربي في القرن الثالث الهجري، نتج عن تجاوبه مع البيئة الأندلسية التي شاع فيها الغزل والشراب والغناء.
٩ـ كيف تميز الفن الإسلامي في الزخرفة، العمارة، والخط العربي عن بقية الفنون العالمية؟
الخصائص التي انطلق منها الفن لإسلامي هي التي تصنع أو صنعت تميزه وتفرده عن بقية الفنون العالمية سواءٌ في الزخرفة أو العمارة أو الخط العربي، ومن أهم هذه المنطلقات والخصائص ارتباطه بالعقيدة الإسلامية وأهم مرتكزاتها التوحيد الذي يفرض على الفنان المسلم أن يتجنب تصوير ذوات الأرواح، والتركيز على الخط والزخرفة والهندسة لتصوير الجمال الإلهي، غير أن الزخارف الهندسية لم تكن بسيطة التكوين والشكل؛ فقد اعتمدت على التكرار المنتظم الذي يعكس بدوره الانسجام الكوني في ذوق رفيع ودقة رياضية، ثم استعمل الفنان المسلم الخط العربي كعنصر فني مركزي عمد من خلاله إلى تحويل النصوص القرآنية والأحاديث إلى لوحات زخرفية وجمالية، ما يجعل الكتابة نفسها عملاً فنّياً قائمًا بذاته، وابتكر نمط العقد والتجريد بديلا عن التصوير الواقعي باستخدام الزخرفة النباتية والهندسية المتداخلة.
كما تكاملت العلاقة بين العمارة والفنون التطبيقية المتمثلة في المساجد والقصور من خلال خلق قيم وظيفية وجمالية معاً، وهو ما ميز ملامح وقسمات الفن الإسلامي عن الفنون التي تأثر بها غير أنه لم يذب فيها تماما بل صهرها في بوتقته الذاتية؛ إذ استنبط المعماريون المسلمون نظاما معماريا مميزا متكاملا من حيث التشكيلات والتراكيب المعمارية والزخرفية التي تكون معا طرازًا فريدًا تتجلى فيه معالم روحه التي تنتهج التوحيد وطابعه الإسلامية، غير أنها لم تنتج إبداعا تكراريا نمطيا بل أفرزت عمارة تتباين في بعض تفاصيلها من منطقة جغرافية لأخرى غيرها.
غير أن الذي ميز العمارة الإسلامية عن أي عمارة أخرى ارتباطها بالخط العربي؛ فقد كان دوره أساسيا وليس وسيطا، وهو ما يبدو في العمارة الغربية في أوروبا وفي شرق وجنوب آسيا حيث تكون الزخارف في عمائرها مستقلة تماما سواء أكانت منحوتة أو مرسومة، وهو ما يتيح لها أن تنتقل من مكان إلى آخر دون أن تترك تأثيرا في شکل البناء، وهو الذي نلمسه في العمارة الإسلامية، على خلاف غيرها، حين تندمج الزخرفة والسطح جسدًا واحداً، هذه العلاقة التکاملية ـ التي ذكرتها ـ ساهمت في تأثر المهندسين المعماريين الأوروبيين وانبهارهم بهذا الفن الأنيق للعمارة الإسلامية في تكويناتها وكفاءة تشكيلاتها وهياكلها، وتناسق زخارف الجدران المكونة للأنماط الهندسية المعقدة والأرابيسك، فاقتبسوها في أعمالهم يشهد بهذا تزيين أسقف مكتبة الفاتيكان في عصر النهضة على يد الفنان دومينيكو فونتانا، بأمر من البابا سيكستوس الخامس في نهاية القرن السادس عشر.
لهذا يتميز الفن الإسلامي عن غيره من الفنون بالصفاء الذهني والبصري لمن يراه، والنابع من تعانق الخط العربي مع مادة البناء وسطحه ليصنع الزخارف المحيطة به، استمدادًا من مبدأ الوحدة والاستمرارية الكامن في فلسفة الفن الإسلامي، حيث تتلاقى الأوساط والخطوط في ديمومة واستمرار لبعضها البعض في دوائر لا تنتهي.
١٠. لماذا امتنع الفن الإسلامي التقليدي عن تجسيد الصور البشرية؟ وما الأبعاد الدينية والجمالية لذلك؟
لا يوجد فن النحت في الفنون الإسلامية منفردًا بذاته بل هو يرتبط بفن العمارة والفنون الزخرفية التي تنطلق من عقيدة توحيدية لا تعرف الشرك المتمثل في تعدد الآلهة وعبادة الأشخاص، ولهذا تمنع تمثيل الکائنات الحية التي تمثل مظهرًا من مظاهر الوثنية التي قضى عليها الإسلام ليقضى على الوثنية ممثلة في عبادة الأشخاص والأوثان، على أن هذا المنع تراجع بالتدريج مع تمكن العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين والوعي بمرتكزاتها، وقد بدا هذا التراجع في عدم ظهور الرسوم الآدمية والحيوانية على العديد من التحف والرسوم الجدارية، دون الاقتراب من زخرفة المصاحف والمساجد.
وهذا الامتناع قائم على أبعاد دينية وفقهية وتربوية، أولها: المضاهاة بالله تعالى في التشبه بخلق الله، وهو ما ينافي توحيد الله بل هو الشرك الظاهر عند جمهور الفقهاء، وثاني الأبعاد يكمن في التحذير من الغلو وعبادة الصور الذي يؤدي إلى الابتعاد عن تعظيم الله وحده، وثالثها التمسك بالتقوى والعبادة وهو بعد يكمن في الفن الإسلامي الذي يميل إلى التجريد الذي لا يشتت عن الدين.
١١ـ ما الخصوصية التي منحتها العمارة الإسلامية (كالمساجد والقصور والمدارس) للهوية البصرية للمدن الإسلامية، لكن أرجو أولا ذكر تعريف الهوية البصرية للمدن؟
تعريف الهوية البصرية للمدن بحسب السائد فهمه أنها مجموعة العناصر المرئية المميزة للمدينة، مثل: الشعار، الألوان، الخطوط، الشكل المعماري، والتصميم الحضري، والزخارف، والرموز الثقافية، بغرض خلق صورة ذهنية ثابتة لدى من يسكنونها ومن يزورونها، كما أنها تُعزز الانتماء والإدراك المكاني، وتسلط الضوء على القيم الجوهرية الثقافية والتاريخية التي تتميز بها المدينة صاحبة الهوية البصرية.
على الرغم من أن الفن الإسلامي قد قام على ركائز من الفنون المنتشرة بالبلاد التي فتحها المسلمون، إلا أن له خصوصية منحتها العمارة الإسلامية له تتمثل في توحيد الشكل والوظيفة، حيث يجمع النمط الزخرفي في فضاء واحد بين المسجد والزاوية والمدرسة، مما يخلق هوية مكانية متماسكة، واعتمادًا على الهندسة والكتابة التي تحتفي بالزخارف الهندسية والنقوش النباتية بالخط العربي لتبرز الهوية الإسلامية دون تصوير بشري، وتوازن العمارة الإسلامية بين الضوء والظل باستثمار الإضاءة الطبيعية واستخدام الفناءات والباحات مما يعطي المدينة طابعاً روحيّاً وعملياً في وقت واحد، وتعتبر القباب والمآذن من العناصر المميزة للعمارة الإسلامية ورمزًا لها، إلى جانب الأقواس والأبواب المزخرفة، التي تعكس الجمال والتناسق، الأمر الذي يعزز الهوية الإسلامية للمدن .