“أنا و٥٧٣٥٧ “
الستار يعلو ببطء . موسيقى حالمة ،
أشبه بأنفاس أطفال تكتب قصيدة في الهواء
ضوء ناعم يتسلل عبر نوافذ بيضاء ،
في قاعة صغيرة داخل مستشفى 57357
وجوه الأطفال تلمع كنجوم لا تعرف الغروب
يدخل طارق بوقار صامت ،
حاملاً في عينيه مزيجاً من الشجن والإيمان
طارق بصوت داخلي :
كنت أظن أن البطولة تُصنع في ميادين السياسة والقانون ،
في ساحات ترفع فيها الأصوات وتتهاوى فيها الأقنعة
لكنّي اليوم أراها هنا ، في وجوه صغيرة ،
تخبّئ داخلها مجرّات من النور ،
وفي قلوب تحارب المرض بابتسامة ،
كأن الضحك سلاح ضدّ العدم
(طارق يقترب من الأطفال و يجلس بينهم)
طفلة بخفة وسذاجة جميلة :
أنت شاعر ، مش كده؟
يعني بتعرف تكتب كلام يخلي الناس تبكي؟
طارق يبتسم بشجن :
أحاول يا صغيرة الضوء
لكنّكم أنتم من تكتبون الشعر الحقيقي ،
أنتم من تزرعون الجمال في وجع صامت ،
وتضحكون كأنّكم تهزمون الموت كلّ صباح
طفل : هل تخاف أحياناً يا عم طارق؟
طارق : كلّ يوم يا صغيري
لكنّ الخوف ليس عيباً ،
هو مجرّد ظل يذكّرنا بأن وراءه ضوءاً
تعلمت منكم أن الشجاعة ليست أن تتظاهر بالقوة ،
بل أن تعترف بضعفك ثم تنهض
الطفلة : وأنت ، جاي تعمل إيه هنا؟
طارق : جئت لأتعلم منكم
أن أتعلم كيف يمكن للروح أن تبتسم
بينما الجسد يئن
أن أفهم كيف يولد الأمل في أكثر الأماكن ألماً
جئت لأسمع أصواتكم
ربما لأسمع نفسي من خلالها
(يصمت لحظة ، يرفع رأسه نحو السماء ، كأنه يرى شيئًا بعيداً )
طارق : في 57357
رأيت الإنسان كما لم أره من قبل.
طفلٌ بلا ١شعر ، لكنّ روحه تعلو كالتاج
طفلة بالكاد تمشي ،
لكنها تحمل الأرض بثبات كأنها نبية الضوء
هنا ، تتقاطع خطوط الطب مع فلسفة الوجود ،
هنا يتعلّم الموت كيف يخجل ،
وتتعلم الحياة كيف تكون نقية من الزيف
( ينظر إلى طفل يجلس في زاوية المسرح )
طارق : هل تحلم كثيراً ؟
الطفل بصوت خافت :
أحياناً أحلم إنّي بطير فوق المستشفى
بشوف كل القاهرة تحت رجليّ صغيرة جداً
هل ممكن أطير بجد؟
طارق يقترب ، يهمس :
نعم ، يمكنك أن تطير دون أجنحة
يكفي أن تُسامح ، أن تحب ، أن تؤمن
الطيران الحقيقي يبدأ من هنا ، من صدرك
طفلة : أنت مين يا عم طارق ؟ دكتور ؟
طارق يبتسم :
لا يا حبيبتي ، أنا مريض مثلكم ، بس مرضي اسمه “الحياة”
وأنا جاي أتعالج من النسيان ، نسيان معنى الأمل
طفل : هو النسيان ليه وحش كده ؟
طارق : لأن اللي ينسى ، بيعيش بلا جذور ،
وبيمشي فوق الأرض كأنه ضيف في بيته
الطفلة : طب وإحنا ؟ إحنا ليه هنا ؟
طارق :
لأن الله اختاركم لتكونوا شهوداً على أن المعجزة ممكنة
أن الطفل الصغير قد يحمل ما لا تطيقه الجبال
( لحظة صمت ، ثم يرفع طفل رأسه بفضول )
طفل : هو المرض شرّ يا عم طارق؟
طارق : الشر الحقيقي هو أن نفقد رغبتنا في الخير
المرض ليس شراً ، بل رسالة
أحيانًا يأتي ليذكّرنا أن الروح أكبر من الجسد ،
وأن الإنسان لا يُقاس بدرجة حرارته ، بل بحرارة قلبه
الطفلة : أنا بحب أرسم
بس إيدي بتوجعني أوقات ، ومش بعرف أكمل
طارق بحنو : كملي حتى لو وجعتك ،
لأن الفن بيكمل لما الوجع يقول كلمته
ارسمي بدمعتك ، فكل دمعة لون
والرسمة اللي تولد من الألم ، لا تموت أبداً
طفل آخر بحزن :
وأنا كنت بلعب كورة ، ودلوقتي بقيت بتعب بسرعة
يعني مش هلعب تاني؟
طارق يجثو بجانبه :
هتلعب ، بس بطريقة تانية
كل مرة تضحك فيها ، بتسجل جول في مرمى اليأس
وكل مرة تساعد فيها صاحبك ، بتفوز بكأس الحياة
( تتقدم طفلة صغيرة تمسك بوردة )
الطفلة : أنا بزرع وردة كل يوم هنا في أوضتي ،
بس عمرها ما كبرت!
طارق يبتسم برقة :
يمكن الوردة دي مش محتاجة تكبر ،
يمكن هي جات علشان تشهد على صبرك ،
مش علشان تزهر ،
بل علشان تقول : في قلبك ، في وردة أكبر
(صمت. الأنفاس تختلط بالضوء.
الموسيقى تتحوّل إلى نغمة دفء خفيف)
طارق بصوت عميق :
يا أطفال النور
أنتم لا تُشفون فقط من المرض ،
أنتم تشفون العالم من قسوته
أنتم الدرس الذي لم يُكتب بعد في كتب الوجود
فيكم معنى الخلاص ، وفي وجعكم سر النجاة
( يتقدّم خطوة ، يفتح ذراعيه نحو الضوء )
طارق : يا رب
احفظهم كما تحفظ الأسرار في قلبك
واجعل من كلّ دمعة تسقط على وسادتهم
نبتة للحياة في أرض عطشى
( ينحني قليلًا ، يهمس وكأنه يناجي روحه)
طارق : كنت أظن أنني جئت لأعلّمهم الشجاعة
فاكتشفت أنهم هم من علّموني معنى الإنسان
الضوء يشتدّ ،
الأطفال يركضون بخفة الفراشات ،
يضحكون ، وصوتهم يرتفع كوردةٍ تغنّي :
هنعيش علشان نحلم ، وهنحلم علشان نعيش
الستار يُغلق ببطء.
ويبقى في الخلفية ضوءٌ صغير ، لا ينطفئ
طارق غريب
جريدة الوطن الاكبر الوطن الاكبر ::: نبض واحد من المحيط الى الخليج .. اخبارية — سياسية – اقتصادية – ثقافية – شاملة… نبض واحد من المحيط الى الخليج 