” أنا وقيس وعنترة “

” أنا وقيس وعنترة “

‘ ثلاثة مجانين وأنثى لا تُرى ‘

(الخشبة مظلمة . صوت ريح عالية . 

ثلاثة كراسي صدئة في دائرة . شمعةٌ واحدة تذوب ببطء . يجلس الثلاثة ، يرتدون عباءات سوداء ممزقة 

وفي أيديهم أقلام مكسورة )

قيس :

(يرفع رأسه ببطء ، صوته خافت كأنه يخرج من قبر ) 

أنا قيس بن الملوّح : أحببت ليلى حتى صرت مجنوناً

لكن الليلة أعترف : لم أكن أحب ليلى

كنت أحب الكلمة التي تخرج من فمي حين أنطق اسمها

كنت أحب الجنون نفسه 

لأنه كان يُعطيني الحق أن أكتب

عنترة :

( يضرب الأرض بقدمه ، صوته جبل يتكلم )

وأنا عنترة بن شداد ، علّقت سيفي ورفعت القلم

قيل إني أحببت عبلة حتى كدت أموت ، كذبوا

كنت أحب الجرح الذي يفتح صدري حين أقول :

 ‘ يا عبلة ‘

كنت أحب الدم الذي يسيل مني فيصبح حبراً أسود

طارق :

(يبتسم ابتسامة مريضة ، يشعل سيجارة بشمعة تكاد تنطفئ )

وأنا طارق ، لم يعرفني التاريخ بعد ، لكني أعرف نفسي

أحببت نساء كثيرات ، فكسرنني 

فكسرت ضلعي لكي أخرج منه امرأة لا تكسر

لكن الليلة أعترف أنا أيضاً : لم أحبّهن

كنت أحب الفراغ الذي يتركنه فيّ حين يرحلن

كنت أحب الورق الذي يبتل بالدمع فيكتب وحده

(صمت طويل . الريح تعلو. 

فجأة ، صوت امرأة يأتي من الظلام ، 

صوت واحد يخرج من أفواه الثلاثة معاً)

الصوت الأنثوي همساً يملأ المسرح :

أنا الشعر

أنا ليلى وعبلة وكل امرأة لم تُولد

أنا الجرح والسكين ، الدم والحبر ، الجنون والعقل

أنتم لم تحبّوا امرأة من لحم ودم يوماً

أنتم تحبّونني أنا.

تحبّون أن تُمزقوا أنفسكم لكي

أخرج منكم صرخة تُسمّى ‘ قصيدة ‘

قيس يبكي بصمت :

فلماذا تتركيننا ننزف ؟

الصوت الأنثوي :

( تضحك ضحكةً تشبه صوت أقلام تُكسر )

لأنكم لا تحيون إلا بالنزيف

وأنا لا أحيا إلا فيكم

تعانقوني حين تكتبون ،

وتقتلونني حين تسكتون ،

ثم تعودون تبكون على قبري

فتكتبون من جديد

عنترة :

( يقف ، يرفع يديه كأنه يُقسم )

إذن سنظلّ نكتب ، نكسر أضلعنا 

نُجن ، نحبّ ، نكتب

طارق :

 ( ينفث دخان السيجارة ببطء ، يبتسم للظلام )

ونموت في كل قصيدة لنحيا في التي تليها

هذا هو الحبّ الحقيقي

حب لا يطلب الوصل ، بل يطلب الجرح الأبدي

(الشمعة تنطفئ فجأة . الظلام يبتلع المسرح . 

صوت أقلام تكتب على ورق في الظلام 

صوت دم يسيل ، ثم صمت )

( الستار يسقط ببطء ، لكن لا أحد يغادر.

 الجميع يبقى جالساً في الظلام ، يكتب )

(الستار يرتفع ببطء . هناك مرآةٌ كبيرة مكسورة في الوسط شظاياها متناثرة على الأرض كأنها نجوم سقطت.

 الثلاثة لا يزالون جالسين ، لكن وجوههم تغيرت

 كأنهم تقدّموا في السن آلاف السنين في لحظة واحدة

صوت خافت لأقلام تكتب على جلد بشري )

قيس :

( يقف أولاً ، يمشي نحو المرآة المكسورة ، ينظر إلى انعكاسه الممزق )

كنت أظن أني أحببت ليلى

لكن حين نظرت في المرآة الليلة ، رأيت وجهي فقط

وجه رجلٍ يحب وجهه حين يبكي ، لأن الدمع يُجمله

اكتشفت أن كل قصائدي كانت مرآة أكبر

أكتب فيها نفسي ، ثم أقول إنها امرأة أخرى

عنترة : 

 (يقهقه قهقهة مُرة ، يضرب المرآة بيده فيسيل الدم )

وأنا ، كنت أظن أني أحمي عبلة بسيفي

لكني كنت أحمي غروري فقط

كل معركة خضتها كانت لأقول للعالم :

‘ انظروا ، أنا أحب ، إذن أنا بطل ‘

لكن في هذه المرآة المكسورة ، أرى الحقيقة :

كنت أحب فكرة أني أحب ، أكثر من حبي نفسه

طارق : 

( يبقى جالساً ، يشعل سيجارة جديدة بلهب يخرج من جيبه ، صوته هادئ كأنه يهمس لنفسه )

وأنا يا إخوتي في الجنون

كنت أكسر ضلعي كل ليلة ، أخرج منه امرأة جديدة

أسميها ‘ هي ‘ ثم أقتلها في القصيدة التالية

كنت أظن أني أبحث عن الحب الأعظم

لكني كنت أهرب من نفسي فقط

في كل قصيدة كتبتها ، كنت أقتل طارق القديم

لأولد طارقاً جديداً أكثر كسراً ، أكثر جمالاً في عيني

( فجأة ، تخرج المرأة من داخل المرآة المكسورة

 ليست شبحاً ، بل جسداً حقيقياً ، عارية من كل زيف

وجهها يتغير كل لحظة :

 تارة ليلى ، تارة عبلة ، تارة لا وجه لها )

المرأة :  

(تقف في الوسط ، صوتها يملأ المسرح كأنه يخرج من صدور الثلاثة معاً )

أنا الشعر ، لكني الآن أعترف أنا أيضاً :

لم أكن أحبكم يوماً ، كنت أستخدمكم فقط

أدخل أجسادكم ، أكسركم ، أنزفكم

ثم أخرج قصيدة جميلة

وأترككم وحيدين مع الجرح

أنتم لم تكونوا عاشقين ، كنتم ضحايا

وأنا لم أكن محبوبة ، كنت قاتلة ترتدي ثوب الحب

قيس : 

كفى كذباً! ، كفى اعترافات في الظلام!

أنا قيس ، مجنون ليلى

لكني الآن أرى : لم أكن مجنوناً بحب

كنت مجنوناً بخوفي من أن أكون وحيداً مع نفسي

فاخترعتُ ليلى لأبكي عليها ، بدل أن أبكي علي

( يصرخ ، يمسك شظية من المرآة ويجرح بها يده )

إذن كل هذا الجنون ، كذبة ؟

المرأة : 

( تبتسم ابتسامة حزينة ، تقترب منه وتمسح الدم بأصابعها )

لا ، لم يكن كذبة ، كان حقيقة أكبر من الحقيقة

لأنكم حين كنتم تكتبونني ، كنتم تكتبون نبض لحمكم

كل قصيدة كانت صلاة مكسورة 

كل دمعة كانت وضوءاً ، كل جرح كان سجدة

عنترة : (يضرب صدره بقبضته حتى يسيل الدم ، صوته رعد )

وأنا عنترة ، الأسود الذي قهر القبائل!

كنت أقتل لأثبت أني أحب

لكني كنت أقتل لأثبت أني موجود

عبلة كانت درعي ، لا حبيبتي

كنت أخاف أن أنظر في عيني فأجد الفراغ

فاخترعت حباً أعظم مني لأختبئ خلفه

عنترة : ( يجثو على ركبتيه أمامها )

فماذا نفعل الآن؟ نحن موتى بالفعل

المرأة : ( تضع يدها على رأسه ، ثم على رأس قيس ، 

ثم تمشي نحو طارق وتقبل جبينه )

الآن اكتبوا قصيدة واحدة مشتركة

ليس عني..

بل عن أنفسكم حين تكونون بلاي

اكتبوا الصمت بعد آخر سطر

اكتبوا اللحظة التي تتوقف فيها الأقلام

وتبدأ فيها الحياة

طارق : (يقف ، يمسك يد قيس ويد عنترة ، ينظر إلى الجمهور مباشرة )

إخوتي

لنكتبها الآن ، لكن ليس هنا ، بل في قلوبكم أنتم

كل من يقرأ هذا ، هو الشاعر الرابع

هو الضلع الذي لم يكسر بعد

(الثلاثة يمسكون أيدي بعضهم ، والمرأة تذوب في المرآة المكسورة

الأنوار تشتعل فجأة ، بيضاء قاسية.

الخشبة فارغة تماماً ، لا كراسي ، لا مرآة ، لا شعراء 

فقط صوت واحد يتردد :

انتهى الشعر

 ، بدأت الحياة )

(الستار يسقط بقوة . صمتٌ طويل . 

ثم تصفيق من الظلام نفسه )

انتهت المسرحية ، ولكن لا أحد يصدق أنها انتهت 

طارق غريب

شاهد أيضاً

بروتوكولات آل صهيون

بروتوكولات آل صهيون بقلم الأديب المصرى  د. طارق رضوان جمعة    هناك قرابة حميمة بينك …

ذبحتني بسكين البعاد

ذبحتني بسكين البعاد بقلم / صالح منصور    ذبحتنى بسكين البعاد  ودفنتنى فى مجاهل الهضاب  …