أخبار عاجلة

أزمة المثقف ما بين العلمانية والدين ودواعي التحضر

لا شك أن الدين هو أول ثقافة تشكل وعي الفرد وهو أيضا أهم ثقافة تساهم في تشكيل وعي المثقف ومنه ينشأ الفرد على قناعات أخلاقية هي في أغلبها قناعات إيجابية لأن الأديان في مجمل تعاليمها تدعو للتمسك بالأخلاق الحميدة وترشد الإنسان أن يكون من أهل الفضل ثم إنها تعلم الإنسان أن لهذا الكون خالق يجب أن يخشاه الإنسان وذلك الإعلام ليس ميزته الإيمان بوجود الله فقط كما يظن البعض وإن كان الإيمان أهم مزاياه فهو أيضا يعمل على صحوة الضمير الإنساني بأن يراقب الإنسان رضى الخالق في كل أعماله بحيث يعطيه ذلك سببا مهما. في أن يحسن إلى إخوته في الإنسانية وإن يحترم الأعراف والقوانين وإن يحافظ على سلامته الشخصية وأن ينفذ وصية الغائب والمتوفي وأن يمارس حريته في إطار أخلاقي
بمعنى موجز فإن الدين يساعد الإنسان أن لا يقدم على أي عمل يؤذي به نفسه أو يؤذي الآخرين أو يضر بحقوقهم سواء كانوا موتى أو أحياء وأظن أن هذا التقنين هو أفضل إنجازات البشرية
فما بالك إذا اقترن التدين والإيمان بالتوحيد الذي من أهم فوائده يقين الموحد أنه لابد أن يرضى ربا واحد وإن يدعوه وأن يحاول بقدر الإمكان أن تكون بينه وبين ربه صلة حسنة
وهو لابد أن ينصره ما دام من أهل الخير والحق والسلام لأن الأمر يرجع إلى الله وحده وذلك يفيد الموحد في حياته في أن يجعله في حماية من استغلال الكهانة والشعوذة والعرافة . وهو أيضا لن يقع في الحيرة إذا كان موحدا مؤمنا لأنه يعلم يقينا أنه.
يدعو ربا واحدا لا شريك له وليس اربابا متعددة ربما يتقبل هذا ويرفض هذا
ولاشك أن تتبع الإنسان لأوامر دينه الخيرة تجعله في أعلى مراتب أهل الفضل والأخلاق بل ويساهم الدين أيضا مساهمة كبيرة في تكوين الشخصية الناجحة المحبوبة المحترمة. ويؤمن كل مؤمن ان مصدر الأديان جميعا هو الله وأنه هو سبحانه الذي شرع تشريعات الأديان السماوية للأتبياء والرسل
حتى يبلغوها للناس ولذلك فقد غلب على أصحاب الديانات السماوية أن يرجعوا في احكامهم الفقهية الي كتب الله عز وجل وذلك يتضح أكثر عند المسلمين واليهود والمسيحيين – وفي الإسلام يُأخذ الحكم الفقهي من الكتاب والسنة أو قد يحكم به قياسا عليهما ويشترط فيه مراعاة مصلحة الفرد والمجتمع
مثالا على ذلك حكم تحريم التدخين الذي قيس على حديث الضرر وعلى أية (إن الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)
ولقد عد الفقيه التدخين من الفواحش التي حرمها الله سبحانه وتعالى وقد يحدث فيختلف الفقهاء لأن الاختلاف رحمة في الأمة فيقول بعضهم انه مكروه وليس حراما وهنا. يكون علينا احترام الرايين ووضعهما في الاعتبار. ويقول قائل كيف يكون ذلك؟ ولا يكون ذلك إلا بالأخذ بأوسط الأمور وانفعها فنقول لمن يحرم التدخين لا تدخن ولا تشدد مع أخاك المدخن بشكل يجعله يستمر في التدخين تعنتا
وأنه علبك أن تخبره أنه إذا كان مريضا بمرض يزيد التدخين من أعراضه وخطره وهو رغم معرفته بذلك يصر على التدخين فهو يقدم على فعل حرام في حق نفسه وفي حق أسرته ويرمي بيده للتهلكة وقد قال سبحانه ( ولا ترموا بإديكم للتهلكة)
وأنه لو كان فقيرا ويصرف قوت أولاده على التدخين فالتدخين عندئذ يكون حرام قطعا لأنه لهو يصرفه عن واجباته تجاه أسرته كذلك فهو إن كان يدخن ويسرف في التدخين بما يضر بمن حوله من أطفال ونساء وكبار بالسن فالتدخين أيضا يكون حرام قطعا لأن القاعدة في الدين (لا ضرر ولا ضرار)
اما اذا كان ليس لديه أي مشكلة من تلك المشاكل فهو مكروه
ويستحسن أن يقلع عنه بسبب أخطاره المستقبلية على صحته
وكذلك نقول للمدخن لا تضيق ذرعا بنصيحة أخاك الذي يحبك ويخاف عليك وليس له مصلحة في تصيحتك إلا رضا الله عنه وعنك وكل ما يريده هو أن يراك معافى وسعيدا في الدنيا والآخرة
ولكن قد يكون لبعض الفقهاء رأي آخر يزيد من دواعي التحريم
وهذا الرأي يضيق على المدخن ليسرع بالاقلاع عن التدخين مثالا أن التدخين ينقض الوضوء
عندئذ قد يلاحظ كل من الشخص العادي والشخص المثقف انه لم يتم ذكر التدخين بين نواقض الوضؤ ولكن قد يكون من دواعي رأي الفقيه أن التدخين يتسبب في رائحة كريهة توجب الشك انه قد بنقض للوضؤ فوجب الابتعاد عن الشبهة
وهنا قد يكون الفقيه على حق لأن النبي قال من أكل بصل أو ثوم فلا يحضر مسجدنا. فإذا كان النبي قد قال ذلك عن الثوم فالتدخين أخبث ريحا وأكثر ضررا وأقل فائدة من الثوم بكثير
وأذا كان الحنابلة راو أن اكل لحم الجمل المطبوخ يقتضي الوضوء بعد أكله اتباعا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي عن البراء بن عازب
أنه لما سئل عن أكل لحم الإبل قال توضئوا منها
ولما سئل عن لحم الغنم قال لا تتوضئوا منها
فمن الجائز عندئذ أن يكون التدخين أولى بتجديد الوضؤ بعده فإذا لم تكفي هذه الأسباب فهو أجدى تورعا ولكن ما سبق من نهي كان بخصوص الرائحة وليس له علاقة بحرمانية ما ياكل ويشرب من عدمه لأن الثوم ولحم الجمل حلال اكلهما ولم يبنى هذا النهي على تحريم مثل تحريم الخمر ولحم الخنزير كما أن الشافعية والثوري والمالكية وأهل الرأي قالوا خلاف الحنابلة ذلك كما أن من حديث جابر انه كان( آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) رواه الأربعة
ولكن من النصح السليم أن نلتزم بتجديد الوضؤ وهكذا يمكن معالجة كل هذه الأمور بتعقل وسماحة إذا تدبرنا وعقلنا وفهمنا أن هذه النواهي من فروع الدين ويمكن تطبيقها بالمحبة وباحتواء الآخر ويالتذكير الهادئ، وإن الهدف من تلك النواهي ليس معاقبة الشخص أو حرمانه ولكن الهدف منها حمايته من الضرر هو ومن حوله وان من يعلم بتلك النواهي يجب أن يعلم أنه علم بها لنصيحة إخوانه وتحذيرهم من أمر سئ يمكن أن يقعوا فيه وهو لم يتعلم للإستعراض وعقاب الاخرين أو يهدف الضغط على الآخرين لاتباعه بدون سبب فإذا تعلم الشخص المتدين وأراد أن يكون مثقف صاحب فكر فعليه التمتع بأخلاق التواضع والسماحة
و عندئذ سيكون من أهم أدواته المستخدمة في الكتابة وفي عرض الأفكار ثقافته الدينية وسيذهب مستشهدا بها تلقائيا في كل تناظر أدبي يخوضه بل وقد يجعل ثقافته الدينية هي المحور الرئيسي عند القبول وعند الرفض وهذا ليس حال المثقف العربي لوحده بل هو حال أكثر المثقفين والكتاب العالميين ولكن قد يكون المثقف غير متعمق في الأمور الفقهية رغم اجادته للفنون الكلامية وقد يكون مقياسه للأمور مقياس سطحي عندئذ ستجده يصدر أعمالا وآراء محشوة بالإفتاء الشخصي غير الشرعي وغير المقنن وغير الرسمي وغير المراعي لثقافة الاختلاف والاحترام
كما أنه قد يتطاول على العلماء لخلافه معهم ولأنه يرى أن ما فهمه من قرأته ومشاهداته هو الصحيح ولا صحيح غيره وقد يتسرع بعض المخالفين والعلمانيين فيقولون أن النص الديني هو سبب تكوين هذا الشخص ولكن الحقيقة التي يتغاضى عنها الكثيرون أن طريقة فهم الشخص للنص وطريقة شرح النص له هما المتسببان الاساسيان في تعصبه لأنهما هما من ضخما لدى الشخص ميله لأهوائه المستترة خلف تأييده لأرائه المتشددة ولكن من تظن أنك تخدع عندما تفكر أيها المغرم بالكراهية أن أمرك ليس مكشوفا لأصحاب القلوب الطبية والنوايا السليمة والأهداف السامية فهناك أيضا ذلك النوع من المثقفين الذي امسك بقلمه من أجل نشر التحضر والمحبة والسلام ومن قبلهم المبادئ والمثل العليا وهم لا يعجبهم التشدد ولا التعصب بدون وجه حق ظاهر بين الأدلة
ولكن على الجانب الآخر من الفكر الحر العلماني نجد من هو أيضا مغرم بالكراهية وهو بداخله يصب جام غضبه على الأديان ويعتقد ويشيع أن الأديان هي سبب الحروب في العالم وسبب الدمار الذي يلاحق البشرية في كثير من بقاع الأرض ولكن الحقيقة الصارخة هو أن سبب دمار البشرية هو الاعتراض الذي يحمل في باطنه غرض التعالي ومحاولة السيطرة على الآخر يزيد عليهما الحسد والذي يجعل الشخص تسيطر عليه فكرة سلب حقوق الآخر وسلبه كل ما يملك حتى عرضه انها الفكرة ذاتها التي كانت سبب في إشعال الحروب والمنازعات منذ بدايات البشرية الأولى وهي الفكرة نفسها التي تتسبب في كل تخلف ثقافي واقتصادي وهي فكرة لا تحترم المنافسة الشريفة وترى أن القوى الغاشمة هي الطريق الوحيد لتحقيق العلو في الأرض
لذلك نجد أصحابها وقد سيطرت عليها أفكار الغزو وفكرة الإمبراطورية وفكرة أن يسود العرق الغازي كل اجناس الأرض مجتمعة وقد يدفع العلمانيين عن أنفسهم بحجة أن المؤسسات الدينية في العصور الوسطى تسببت في خراب عالمي عندما أضرمت نار الحروب الصليبية وجعلت الغرب يعلن الحرب على الشرق واستمر إثر نشوب تلك الحرب حتى العصر الحديث ولكن ما لا يجب أن نتجاهله أنه حتى اعتراف قسطنطين بالمسيحية ديانة رسمية للدولة الرومانية سنة ٣١٣ ميلادية كان العالم ساحة حرب مشتعلة بسبب طموح الامبراطوريات وكان قسطنطين نفسه قد خاض أكثر من معركة مع شركاء ابيه المنقلبين عليه وحتى ومن قبل أن يأتي قسطنطين كانت الدولة الرومانية القديمة قد أقامت مجدها على حساب الغزو واستعباد الشعوب في حوض بحر إيجه وغرب وشرق أوروبا ومن قبلهم كان الإغريق على نفس منهجهم ولقد عاصرت إمبراطورية الفرس في الشرق الإغريق والروم وكان بينهما كثير من الصراعات الدامية التي كان سببها الصراع الاقتصادي وعلى مناطق النفوذ ولم يكن صراعا دينيا ولا إيدلوجيا

وللحديث بقية فإلى اللقاء مع الجزء الناني
بقلم على الحسيني المصري

شاهد أيضاً

“السرطان الذي يأكل الكيان الوطني” بقلم شيما فتحي

_الفساد هو استغلال السلطة أو المنصب لتحقيق مكاسب شخصية أو مالية، ويشمل مختلف الأنشطة التي …