أحزان الحب
شباط 2022
رغم أحزان جوني المتجذرة في أعماقه، كان يعتبر نزهته الصباحية من مقدساته، يمتطي دراجته، يخترق البساتين، يناجي الخالق بالروح وبصمت الكلمات، ويتمتع بتراتيل زقزقة العصافير الفرحة، لأنه يظنها تمجد الخالق وتشكره على شروق الشمس وولادة يوم جديد… هو يصلي في قلبه وروحه ويرجو الله أن يرحم من أخذها منه، فحرمه الحب الوحيد في حياته… كان يؤمن بان الله يسمع صمتنا مهما كانت لغتنا…
جوني تجاوز الثلاثين من العمر، بنى سدا حول قلبه يمنع أي حب قد يتسلل إلى قلبه…
كان هو وحبيبته سوسن سوية طالبين في الجامعة بكلية التجارة في السنة الاخيرة، وكانا من أسعد الناس، ويؤمنان بأن الله هو الذي وحد بين قلبيهما، وقررا أن يتزوجا بعد تخرجهما…
سوسن، كانت ذكية، مجتهدة، جميلة جداً، وحكيمة في أخذ قراراتها…لكنها كانت كثيرا ما تشكو من أوجاع في رأسها، لذلك كانت تتناول مسكنات قوية، فتمر الأمور بسلام، وكانت تظن بان الأمور عادية…
لكن ذلك اليوم، أحست بوجع شديد على غير العادة، وسقطت على الأرض مغمى عليها.
أسعفها جوني مباشرة إلى المستشفى، وبعد اجراء الفحوصات اللازمة، تأكد الأطباء من وجود ورم سرطاني في رأسها…
قال الأطباء: نسبة نجاح العمل الجراحي في منطقة الورم ضعيفة، لكن عدم اجراء العملية هو خطر محتوم…
خابر جوني أهل سوسن، جاء أبوها وأمها من بلدهم مرعوبين…
أجروا الجراحة للصبية، ولكن الفتاة توفت بعد أسبوع… فحل الظلام مكان النور، وغابت الشمس واختفى القمر… وذبلت الزهور …ومات الفرح في حياة الحبيب وقلب اهلها…
مضت سنتان وأوجاع الحبيب باتت جزء من حياته، تعود عليها واعتبرها قدره في الحياة…
في نزهته الصباحية ذلك اليوم، خطر بباله أن يتنزه في منطقة لا يقصدها عادة…
صدفة، رأى صبية تحتسي القهوة بجانب الورد في حديقة منزل.
تجمد جوني يابسا مشدوها يحدق إلى فتاة تشبه سوسن الراحلة الشبه الكامل، جحظت عيناه، وشعر برهبة لم يعهدها سابقا، وظن إنه يهذي وقرر المتابعة هربا من هواجسه، لكن الذي فاجأه هو صوت الفتاة التي جاءت قرب سور الحديقة وقالت له: تفضل أستاذ جوني، احتس قهوة الصباح معنا، أنت لست غريبا، أنت كنت خطيب أختي التؤام المرحومة سوسن، أنا أعرفك من الصور المعلقة في غرفتها…
سمعت الأم ارجة في الحديقة خرجت وعندما شاهدت جوني انهارت دموعها…
استيقظ الأب وخرج يستطلع الامر، وتفاجئ بوجود صديق سوسن عندهم، ضمه وغمره بالقبلات… وساد صمت حزين يكسره صوت نحيب.
عرف جوني بان العائلة انتقلت حديثا إلى هذه البلدة بعدما تقاعد الأب وأحب أن يسكن في الريف هنا في هذا المنزل ذو الحديقة الواسعة الذي ورثته أم سوسن من أهلها… وكان يقول: نحن نحب أن نزرع الورود التي كانت سوسن تحبها…
طالت الجلسة، وطالت أحاديث الماضي، وذكريات سوسن التي كانت زهوة الحياة، وأضحت اللحن الحزين الساكن في قلوب أهلها، احزان لا تنتهي مبللة بالدموع…
تحت رجاء جميع افراد العائلة، الذين شعروا بان أحزان جوني لا تقل عن أحزانهم… ترجوه أن يزورهم دائماً لأنه جزء من تاريخ العائلة وذكرياتهم وأحزانهم…
وفعلا، تكررت الزيارات، ومع الأيام نمت الصداقة بين الشاب والعائلة…
هدى كانت تبدي اهتماما ملحوظاً بالضيف، بعدما أحست بأن قلبها تتسارع نبضاته كلما جاء جوني لزيارتهم…
جوني أحس بأن قلبه سمح إلى هدى بولوج قلبه
لكنه استغرب هذا الشعور وكان يعاتب ذاته على هذه الأحاسيس التي تغزوه…
لكن الحب ملك، لا بد له أن يطفو ولا بد للعيون أن تحمله من إلى السطح…
تقدم جوني لخطوبة هدى، وبعد مشاورات عائلية مكثفة، قال الأب: يا ابني جوني محبتك كبيرة في قلوبنا، وأنت هو الشاب المناسب لابنتنا هدى، ولن نجد شابا يناسب عائلتنا افضل منك لكننا بكل أسف غير موافقين على هذه الخطوبة.
نحن لا يحق لنا أن نظلم هدى…
ابنتنا حرة يجب أن تسكن في قلب خالي نظيف، بينما قلبك مسكونا ممتلأ بحب سوسن…نحن نخشى إنك احببت هدى لأنها تذكرك بسوسن …نحن ندرك الأمر… لذلك لا نصيب لك عندنا…
لكن تحت الحاح هدى العنيف، وافقت العائلة على مضض، قبول جوني عريسا لابنتهم…
جوني كان يشعر بالألم فعلا، كلما تشابكت عيناه مع عيني هدى …يتذكر نظرات سوسن وكان يقول ساعدني يا ربي، أنا اليوم خطيب هدى، ولا يحق لقلبي أن تسكنه غير هدى… هذه مشيئة الله…
وضمن حفل بسيط اقتصر على الأهل والأقارب تكلل الخطيبان في كنيسة الضيعة، وانتقلت هدى لتعيش في دار الزوجية…
رزق الله العروسين صبي وبنت، وفرحت الدار وأهل الدار وخاصة جوني كان يقول بالفعل أعظم حب في الدنيا هو حب الأولاد، وحدهم هم الذين يعيدون فرح الحياة إلى القلوب المتعبة، شكرا لله.
كتب القصة: عبده داود