“مهجة والمطر “
في ليلة هطلت فيها السماء دمع الشوق
تسلل قلبها خلسة ، كطفل يهرب من نومه
ليلعب تحت المطر.
لم تكن تمطر قطرات من ماء فحسب
بل كانت السماء تبكي ذكريات قديمة
تُغسل بها وجوه الأيام اليابسة
فتعود الأرض طفلة تضحك بأنياب البرق.
خلعت حذاء الحياء ، وألقت رداء العقل جانباً
فصارت واحدة مع المطر ، كل قطرة تضرب صدرها
تُحيي فيها نبضاً كان قد مات من زمان
رقصت ، ليس كما ترقصُ الغانيات في الأفراح
بل كما ترقص الريح حين تُجن
تلف نفسها حول أعمدة النور المكسورة
تُقبل وجوه الشوارع الغريبة
وتُغني لحناً لا يعرفه أحد سوى المطر.
كان المطر يهمس لها : أنت لست وحيدة
أنا أيضاً أبكي منذ آلاف السنين ، وحدي
ولا أحد يراني إلا حين أُغرق العالم
فضحكتْ ، ضحكة ابتلت من الداخل قبل الخارج
ورفعت وجهها إلى السماء مُتحدية :
إذن دعنا نُغرق العالم معاً ، ونُعلم القلوب اليابسة
كيف تُحب مرة أخيرة ، تحت المطر
بلا خوف من البرد ، وبلا أمل بالدفء
وبقيتْ ترقص حتى تلاشت
فصار المطر قلبها وقلبها مطراً
ولم يعد أحد يعرف أيهما يبكي الآخر.
واستمرت ترقص حتى انقطع النفس في صدرِها
لكن القلب ، ذلك الهارب الأبدي ، لم يتوقف.
كان يركض داخل عروقها كطفل يطارد فراشة في عاصفة
يصرخ بصوت لا يسمعه أحد سوى الرعد :
أريد أن أحب حتى أغرق ، أريد أن أبكي حتى أضحك
أريد أن أموت قليلاً في كل قطرة تسقط على جبيني
فانحنت على ركبتيها في بركة صارت بحيرة
وغاصت أصابعها في الماء البارد
كأنها تبحث عن وجه غاب ، عن قبلة لم تُقبَل
عن اسم كان يوماً ينطقه لسانها فتصير كلمة حياة.
لم تجد شيئاً ، فبكت
بكاء ثقيلاً كأنه مطر جديد يولد من عينيها
يخلط دموعها بالسماء حتى لم يعد لأحدهما لون منفرد.
ثم رفعت يديها إلى الظلامِ المنهمر
وقالت بصوت انكسر فيه كل ما تبقى من كبرياء :
يا من تركتني للمطرِ وحيدة ، تعالَ ، ارقص معي الآن
وإن كنت شبحاً ، وإن كنت ذكرى
وإن كنتَ كذبة كبيرة علمتني إياها الحياة
تعالَ ، فأنا لم أعد أخاف من البلل
صرت أخاف من الجفاف فقط
فجأة سكت المطر لحظة ، كأن السماء استمعت
ثم عاد أعنف ، كأنه يُقبلها بعنف
يضربها حباً ، يؤلمها حناناً
فصرخت صرخة لم تكن ألماً ولا فرحاً
بل كانت اعترافاً ، نعم ، أحبك
حتى وأنت غائب ، حتى وأنا أغرق
أحبك ما تبقى لي من جنون.
وسقطت على ظهرها في الماء الذي صار سريراً
وفتحت ذراعيها كصليب يطلب الغفران
فاحتضنها المطر كعاشق طال غيابه
وغطاها كفنا من نور مبلل
وهمست آخر همسة قبل أن تذوب : إن مت الآن
فادفنوني تحت المطر ، ولا تُغلقوا النافذة
دعوا ال
قلب يلعب دائماً ، حتى لو غرق العالم كله .
تمت
طارق غريب
جريدة الوطن الاكبر الوطن الاكبر ::: نبض واحد من المحيط الى الخليج .. اخبارية — سياسية – اقتصادية – ثقافية – شاملة… نبض واحد من المحيط الى الخليج 