أخبار عاجلة

خربشات غسان

خربشات غسان
كان يجلس على حافة الرصيف هو طفل تاه عن منزله غض يخاف نسمة الليل أن تُدمِع عيناه.
طفل بعمر الحرب في بلادي يذكر كيف دمر العثماني منزله …كيف أغلق كتبه وسمح لظلمة الجهل أن تخيفه…
ولِدَ يوم أمتشق يوسف العظمة سيفه متحديا دبابة المحتل الفرنسي…
يوم قصف بمدافعه منزله مهددا إياه ناشرا الظلمة والظلام…
كانت صرخته الأولى يوم غادر رحم والدته مع أول طلقة من بندقية الشيخ صالح العلي وابراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش بوجه المحتل والظلم…
رأيته جالسا على حافة الرصيف يحمل دفتره رغم الرياح العاتية رغم شدة الأمطار… رغم حرارة الشمس …رغم الثلج والعواصف
دنوت منه بطبع الإنسان فضولي وكوني اعتقدت أنه يحتاج مساعدة :
ماذا تفعل هنا على قارعة الطريق
ألم تتعب من شدة الحر
ألم تبللك الأمطار وتغمرك الثلوج وتجلد أطرافك
ألا تخشى المرض بهذا الجو العاصف .
نظر إلي بعينين ملؤهما الدمع وقال :
هل تعرف كيف ترسل الرسائل
أأنت قادر على أن ترسل لي هذه الرسالة
ترددت قليلا لكني لم أكن قادرا على رفض طلبه قلت:
أجل صديقي هيا دون لي العنوان وأنا سأرسلها لك
تبسم وقال :
العنوان سهل الحفظ لن يتوه عنه أحد
رسالتي معنونة إلى أبي الذي سافر إلى السماء واعدا إياي أنه لن يطيل غيبته وسيعود بعد أن يكتسب نصائح وخبرة أهل السماء .
أحسست لحظتها أني أقحمت نفسي بشيء لا طاقة لي به أخذت أتلفت يمنة ويسرة علني أجد من ينقذني لكن لا جدوى لن أنجو مهما حاولت
نظر إلي وقال:
ألا تعلم أنها ستصله فأنا أعرف أبي هو لا يعطي عنوانا خاطئا…
أبي إن أطلق وعوده سيفي بها وهو قد وعدني وأنا أثق بوعده
وعدني أنه سيأتي لي بالكثير وأنه عائد ليمسح دمعتي
لكنه تأخر عني كثيرا هل من الممكن أن يكون قد تاه عن الدرب
جلست بجواره وأنا تائه لا أدري ماذا أقول له وكيف أخبره أن رسالته ستصل دون مظروف ودون أن يرسلها لكنه لم ينتظر مني أي كلمة انطلق بحديثه دون توقف:
أرسلت له أذكِّرَه بيوم مولدي يوم وضع أول حجرة لبناء منزلنا
يومها حملني بحب وحنان لايتسع الكون لهما وأطلق علي إسمي الأول…
يومها قال لنا هيا يا أبنائي نشيد منزلنا بأشد أنواع الصخور صلابة ليقاوم كل العواصف والزلازل …
لم تكن ترقد عيناه قبل أن يتأكد أنا جميعا نيام بعد أن امتلأت بطوننا بأشهى المأكولات…
لم يكن يهدأ إلا بعد أن يتأكد أن مدفأتنا تتأجج نارها ولن نشعر بالبرد…
كم كان حريصا أن يمسك كتابي ويتابع دراستي ليرشدني إلى دروب العلم قائلا :
يابني إن العلم هو من يحصن منزلنا ويجعل منه قوة لايمكن هدمها…
يابني أنت الآن بمرحلة البناء كما منزلنا فالإنسان أيضا يبنى بالعلم…
لم يسمعني يوما كلمة تعبر عن عجزه تأمين دواء لي إن أصابني البرد أو التعب…
أبي كان رجلا لا مثيل له بين الرجال…
وقت كان يقف بوجه الإعصار ليجبره أن يبتعد عن منزلنا مهددا إياه بالنفي والدمار …
كيف كان يجابه الرياح والثلوج ليمنع البرد عنا …
كتبت له أخبره بعد رحيله تفرق إخوتي وانقسمو قسمين أحدهم القسم الأول وهو أيضا قسمان لا هم لأول قسم منهم سوى سرقة مابالبيت من متاع وثياب والثاني لاهم له سوى هدم جدران المنزل ليسمح للرياح بالعبث به والإثنان متخاصمان ظاهرا متحالفان ضد الباقي ضمنا
والقسم الثاني بات مسروقا جائعا لايدري شماله من يمينه فهو غير قادر حتى على أن يقترب من المدفأة ليكسب عظامه بعض الدفئ
القسم الأول كان يسرق مابالمنزل سرا والآن لم يعد يخشى أحدا فهو يسرق علنا
بالأمس نهرني أخي الكبير أنا وباقي أخوتي بعد أن عبث بمقتنياتنا وسرقها …
نهرني كوني حاولت أن أبتلع كسرة خبز زيادة عما يعطيني فأني جائع يا أبي
قال لي وقت رآني أحاول أن أقتطع قطعة موز صغيرة وبسخرية وضحكه يملأ السماء :
ألديك ثمنها إذا ماحاجتك بها إن لم تكن تملك ثمنها دعها فهي لي وحدي من حقي.
رغم أنه سرق ثمنها من جيبي وجيب إخوتي
أبي أصبحنا وإخوتي نبحث في أكياس مخلفاته علنا نجد ما نسد به جوعنا وحتى هذه يترقبنا ويسرقها منا
والطرف الآخر أراه يتعاهد مع الرياح والأعاصير ليفتح لهم جدار المنزل يعبثوا به كما يحلو لهم.
أبي أنا موقن أنك قادم …
أنك ستعود لي يوما لتمسح دمعتي وحتى هي سرقت من عيناي…
أنا أصدق وعدك بأنك ستأتيني بكل ما بالعالم من حب …
لن أنام ولن يغفو لي جفن حتى أراك كما كنت شامخا …
ولن تعود لي روحي لتنبض بجسدي حتى ألمس يدك تلك اليد التي كانت عند لمسي لها تمنحني وبتيار يتغلغل داخلي كل الخير والأمل
سأنتظرك يا أبي فوعدك حق ولن يموت أو يغيب الحق
بقلم غسان يوسف (سوريا-طرطوس)

شاهد أيضاً

===== خلي صورتك ذكرى =====

===== خلي صورتك ذكرى ===== لو تاني اتقابلنا في سكة واحدة اختفي عني وما تبصليش …