الوعي مرض المثقفين:
كتب سمير ألحيان إبن الحسين
محنة العقل في ضل أزمة الوعي العربي :
__️ يقول أحد الضرفاء المدعين للجنون عندما إكتشفوا أنه ليس بمجنون قالوا له ما حملك علي إذعائك الجنون وانت رجل عاقل فقال لهم قولة فريدة في مبناها عميقة في معناها ( جنون يعيلني خير من عقل أعيله ) فعقله لم تعد له قيمة أمام الجنون المجدي وهذا هو حال الوعي وسط هذا الركام المتطاول من الجهل الذي يحيط بنا من جميع الإتجاهات الجغرافية التي نعيش ونحيا فيها
فعلى الرغم من أهـمّية الوعي الإنساني والإدراك العقلي في تنميةِ الحضارة البشرية والارتقاء بالفكر الإنساني، إلا أنهما -على الصعيد الشخصي- مُرتبطان بشيءٍ من المُعاناة والألم، إلى حدّ أنّ بعض المُفكّرين وصفوا الوعي باللعنة، والإدراك بالمرض، ومالوا نتيجة ذلك إلى السوداوية.. وبغضّ النظر عن ظروفهم الاجتماعية، إلا أنّ عدداً من الحُكماء والفلاسفة والمفكّرين والأدباء من أصحاب الوعي العميق والإنتاج الفكري المتميّز، يروْن أنّ ازدياد الوعي والإدراك يقودان معظمهم إلى الاكتئاب والانعزال، وأن البلاهة والسّذاجة والسّطحية مرتبطة بالسّعادة والاطمئنان، وهو أمرٌ ظاهر في مقتطفات كثيرٍ من مؤلّفاتهم.
فيمكن للوعي في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً ما يتحول الى مشكلة حقيقية، ويعوذ المرء بنفسه أن يمجد الجهل، ولكن الجهل يبدو في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً، ما يتحول الى نعمة بالنسبة لصاحبه.
الجاهل، أوالجاهل بالأمور إن أردنا تعبيراً أكثر تهذيباً، هو شخص قنوع راضٍ دائماً عما حوله، إنه بالأحرى لا يشغل باله بالبحث أو التنقيب أو التساؤل أو التحري، كل ما هو معطى هو حق بالنسبة له غير قابل للجدل أو النقاش، أما الإنسان المصاب بلوثة الوعي فإنه إنسان حائر، قلق، يطحنه التمزق بين وعيه وبين ما يراه أو يعيشه. “إن الوعي الزائد يمكن أن يكون عدواً يتربص في الأعماق، الوعي يمكن أن يكون عذاباً وجحيماً أرضياَ” هكذا تقول إحدى الكاتبات.يحدث ذلك لأن الوعي بالأشياء يخلق حرقة، فهو مبني على رغبة البحث عن الأفضل والأحسن والأجمل والإنسان الواعي له نظرة أبعد وأشمل، تتخطى المعاش وتتطلع نحو البعيد. نظرة تفحص تحلل وتقارن وتنتقد وتقترح البديل،
لكن الوعي منبوذ دائماً شأنه شأن كل القيم والقضايا الجميلة، فالواعون هم تركيبة خاصة من البشر، فيهم مساحة للحلم وللشعر وللاستشراف، وإلى هؤلاء يجب أن ينتسب المثقف المسلح بالعلم والمضيء بالمعرفة، على خلاف أشباه المثقفين والمدعين والباحثين عن أدوار وبطولات، وما أكثرهم لسوء الحظ. وللواعين دائماً حاسة نقدية إزاء الظواهر والقضايا. إنهم يمتلكون تلك المقدرة المدهشة في النفاذ الى عمق الأشياء، إلى جوهرها، ولديهم الجرأة والشجاعة على الإمساك بالجمر ضريبة بحثهم عن الحق وعن الحقيقة.
انهم مسكونون بقلق المعرفة ومكتوون بحرقة السؤال ومفتونون بالمستحيل، وهم اذ يلقون بأنفسهم في خضم المجهول، فذاك لأنهم لا يقيمون كبير وزن لما عليهم أن يتحملوه لقاء انسجامهم مع ذواتهم، لقاء انحيازهم للمعدن الأصيل في نفوسهم في مواجهة الزائف والهش والمبتذل والسوقي والتافه والسطحي والاستعراضي، وكل ما يزيد الناس استلاباً على استلابهم واغتراباً عن فطرتهم.
وصف سارتر المثقف بالشخص الذي يقوم بمهام لم يكلفه بها أحد. وإن بدا هذا القول في الظاهر سخرية من المثقفين ودورهم، فإنه في الجوهر أميل إلى الشفقة على هذه الفئة المبتلاة من البشر التي وصفها سارتر نفسه ب “الضمير الشقي”.
أما كيف يكون المثقف ضميراً شقياً فذاك ما نجد توضيحاً له في عبارة ديستوفسكي في كتابه “ملاحظات من العالم السفلي”، حيث سعى للتفريق بين نمطين من البشر، نمط يتأمل ونمط يفعل. يقول ديستوفسكي: “أقسم يا سادة أن شدة الوعي مرض، ومن يستطيع أن يفخر بمرضه؟ هل تعرفون، يا سادة، ربما أعتبر نفسي إنسانا ذكياً فقط، لأنني لم أتمكن طيلة حياتي أن أبدأ أو أكمل أي شيء”.
لولا هؤلاء لما كان الوعي، لولا هؤلاء لما كانت منعطفات الحياة الكبرى وتحولاتها، لما كانت الأفكار الكبيرة، والكتب الخالدة والروايات والمسرحيات العظيمة، لولاهم لما كان التاريخ من حيث هو بحث دائم عن الأفضل والأجمل، من حيث هو توق دائم لحياة أكثر إشراقاً، ولوعي كجذوة النار التي حتى ولو توارت تحت الرماد لحين، فإنها تظل عصية على الموات مهما كانت الرياح عاتية
يقول الفيلسوف (إميل سيوران): «الوعي لعنةٌ مُزمنة، كارثةٌ مَهولة، إنه منفانا الحقيقي، فالجهلُ وطن، والوعي منفى»!! ويقول أستاذ الطبّ النفسي الدكتور (عادل صادق): «ارتفاعُ الوعي يزيدُ الآلام، وأغلب المُصابين بالاكتئابِ النفسي من المثقفين».. ولعلّ المُعضلة الحقيقية تكمُن في النُّضج الفُجائي والإدراك الصّادم لبعض الحقائق الإنسانية والمعاني الفكريةِ العميقة، إذ يبدو أن الإدراك التدريجي والوعي البطيء لا يضرّ، فالوعي الذي يأتي بصورةٍ سريعة نتيجة النضجِ الفكري والقراءةِ المُتمعّنة ومراجعةِ القناعات، والتعرّض المباشر لأحداث مؤثرة، هو ما قد يُذهل ويدهش ويحبسُ الأنفاس، وقد يتسبّب في اضطراباتٍ نفسية، إذ قد يحدث أن تصل فجأةً عند نقطة مُعينة من الإدراك تتغيّر عندها، ولا تعودُ الشّخصَ الذي كنتَ تعرفه بعد ذلك أبداً.. تقول الروائية (ليلى الجهني): «إننى أكبر، وأحسد كُلّ من نجا من شرَك الوعي الحاد»، لكنّ الكاتب (نصري الصايغ) يقول: «الوعي المُتأخر خيرٌ من الحماقة المُستدامة»، ويقول الكاتب (صمويل بيكيت): «المُشكلة كُلُّها تَكمُن فى الإدراك، فلَم يُشكّل لي غِیاب الوعي قطّ أية خسارة»!.
ويبدو من اطلاعي أنّ التأمّلَ والتفلسُف، وعمقَ المعرفة وارتفاعَ الوعي والإدراك، وطرحَ تساؤلات وجوديةٍ مصيرية، والتشكيك في المألوفات، مرتبطةٌ جميعها بالمعاناة من الصّراع الفكري والقلقِ والإحباط، لكنّها في النهاية تُعد أسباباً ضروريةً للتحرّر الفكري والروحي والطمأنينةِ النفسية والاقترابِ من الحقيقة، وهي تجعلُ الإنسان أكثـَر تواضعاً وتسامُحاً وتقبّلاً. يقول: (أوشو): «عندما يصلُ الإنسان إلى أعلى مرحلةٍ بالوعي وهي التنوير… سيخسر الكثير، نعم سيخسر القيودَ والأغلالَ والبؤسَ والقلق». وأنا في الوقت نفسه أتساءَل، ما الذي كان يقصده (دوستويفسكي) حين قال: «أقسِم لكم بأغلظ الأيمان أيها السّادة، أنّ شدّة الإدراك مَرض، مَرضٌ حقيقى خطير.. إنّ إدراكاً عادياً هو، من أجل حاجات الإنسان، أكثرُ من كافٍ»؟!.
يااخواني وأحبابي ففي بعض الأحيان تكون جريمتك الكبري التي لا تغتفر وسط الجهلاء أنك إنسان ذو وعي حاد
فإعدام وعيك أو تعتيمه أو تحجيمه يصبح هذفا مشروعا لهم
وكل وعي وانتم بخير ياإخواني.